أولاً - إحسان عباس محققاً:
تألقت في ميدان تحقيق نصوص التراث العربي الإسلامي ونشرها أسماء بارزة لأعلام كبار،أثرَوْا هذا المجال على امتداد القرن العشرين من أمثال: عبد السلام هارون، ومحمود محمد شاكر، وصلاح الدين المنجد وإحسان عباس، وغيرهم كثر.
ويقصد بتحقيق التراث: إثبات المسالة بالدليل،ويستخدم هذا المصطلح في ميدان في نشر الكتب وتصحيحها وخدمتها،بتوثيق نصوصها،وتوضيح غامضها،وضبط مشكلها،وتيسير مادتها للقارئين. فتحقيق المخطوط يعني: قراءته قراءة صحيحة،وإحكام تحريره وضبطه،وإخراجه على الوجه الصحيح الذي وضعه عليه مؤلفه أو على اقرب وجه يطابق الوضع الأصيل الذي تم على يد مصنفه،كل ذلك بالاعتماد على منهج علمي يحكم سير عملية التحقيق.
يعد كثير من النقاد والباحثين إحسان عباس شيخ محققي التراث العربي في فلسطين والعالم العربي،وسادناً من سدنة التحقيق العربي، بما أسداه اليه من خدمات،" فهو ذو معرفة عميقة بالموروث الشعري، وعلى دراية كبيرة بالأدب العربي القديم، وذو اطلاع واسع على الفهرسة العربية، وفهارس الكتب والمخطوطات، وخبير بقواعد المخطوطات ومعاييرها وأصول نشرها.
عمل الأديب إحسان عباس على تحقيق كتب التراث العربي المتصفة بالأصالة الموضوعية، فقد أخرج العديد من الآثار الأدبية والتاريخية والجغرافية.
وحقق إحسان عباس ما يقرب من خمسين كتاباً تراثياً تنتمي إلى عصور الأدب العربي المتتابعة، وتتنوع تنوعاً شديداً.
فقد عُرف عنه غزارة تحقيقاته لأهم الأعمال التراثية وأروعها بعامة،وتحقيق كنوز التراث الأدبي الأندلسي بخاصة، إذ ظل طوال حياته مهتماً بالأندلسيات،فعني عناية خاصة بأمهات الكتب في التراث الأندلسي نثره وشعره وتراجمه، إذ قام بنشر رسائل ابن حزم كلها في أربعة مجلدات بين (1980 -1983)،ونشر كتاب "فصل المقال في شرح كتاب الأمثال" لأبي عبيد البكري الأندلسي (1958- 1972)،ثم أعاد نشر كتاب "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" للمقري،وهو موسوعة في أدب أهل الأندلس نثراً وشعراً وتراجم.
بيد أن إحسان عباس كان أكثر اهتماماً بالشعر في الأندلس وخارجها، وقد بدأ اهتمامه التحقيقي بالنشرات العلمية لدواوين الأندلسيين والصقليين،مثل: ابن حمديس الصقلي (1960)،والرصافي البلنسي (1960)،والأعلى التطيلي(1963 )، والكتيبة الكامنة للسان الدين ابن الخطيب في أشعار الأندلسيين، (1963 )، والتشبيهات من أشعار أهل الأندلس لابن الكتّاني(1966)،وتحفة القادم لابن الأبَّار (1986)،ومعجم الشعراء الصقليين (1995)".
على أن ذروة ما حققه عباس في مجال التراث الأندلسي،كان ولا يزال كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري، وكتاب "الذخيرة في محاسن أشعار أهل الجزيرة" لابن بسام الشنتريني" إذ يضم الكتابان إلى جانب التراجم أكبر مجموعات أو مختارات أشعار أهل الأندلس، وهذا العمل التحقيقي فريد في بابه من حيث الإتقان في قراءة الشعر،والتمرس بتمحيصه،وتحقيق نسبته،ومقارناته ؛ مما لم يعرفه تاريخ الدراسات الأندلسية إلى اليوم.
ويرى الباحث أن ثمة دوافع عديدة حفزته إلى الاهتمام بتحقيق التراث العربي الأندلسي، إذ أبلى في تحقيقه بلاءً حسناً،وقد أثبت في هذه التحقيقات أنه أحد المحققين الكبار الذين يجمعون ثقافة واسعة وموضوعية، ومن هذه الدوافع:
الرغبة في إحياء التراث والاعتزاز به، والإسهام في نشر الثقافة التي يجسدها، فكلما عثر على كتاب، أقبل على دراسته أو تنافس في نشره وتحقيقه، أو إعادة تحقيقه؛ اعتزازاً بذلك التراث المجيد، وإحياءً لذكرى هذا الفردوس الإسلامي المفقود.
الحرص الشديد على جمع التراث العربي الأندلسي وتحقيقه ونشره، وعدّ ذلك التراث تراثاً إنسانياً لا تراثاً قومياً فحسب، إذ كان تحقيق التراث ضمن اهتمامه الموسوعي والنهضوي والإنساني، فقد كان لديه نزوعٌ نهضوي مقرون بالمزيد من الإحساس بالهوية القومية.
حبه للتراث الأندلسي؛ لأنه رأى في ضياع الأندلس صورة قديمة لضياع فلسطين، ووجد أن مأساة أهل الأندلس تماثل في كثير من الوجوه مأساة شعبه الفلسطيني،وعليه يتحتم نشر آثار هذه الحضارة الإسلامية التي ضاعت تحت ضربات الصليبيين بعد طردهم أهلهاً قسراً من بلادهم.
ومما شجعه على ولوج ميدان التحقيق بعامة أن النصوص التراثية كانت سنداً لدراساته الأكاديمية ورفداً لمؤلفاته الأخرى.
هذه العوامل كلها، من باعث على إحياء التراث الأندلسي من أدبنا العربي، ومن استجابة للهاتف الوطني والإنساني، ورغبة في التمرس بالنصوص القديمة، هي ما أملت على المحقق إحسان عباس النهوض بعبء تحقيق كتاب النفح للمقري هذا الموسوعة الفريدة.
ثانيا- منهج إحسان عباس في تحقيق كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري:
مما لا شك فيه أن لكتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب قيمة علمية كبيرة،إذ تحدث فيه مؤلفه عن كل ما يتعلق بالحياة العامة في الأندلسي،بدءاً من الفتح وانتهاءً بنهايتها وتحدث فيه أيضاً عن لسان الدين بن الخطيب الأديب الشاعر ووزير بني الأحمر.
وكتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب بما اشتمل عليه من معلومات عن الأندلسي يمثل موسوعة عن الحياة الفكرية والأدبية والاجتماعية،وهو كتاب أدب يقوم على الجمع،فهو كتاب مختارات شعرية ونثرية وكتاب تراجم لأهل الأندلس،الأمر الذي يجعله من أهم المراجع عن هذه البلاد.
لقد أبدى إحسان عباس إعجابه بكتاب نفح الطيب بخاصة، بسبب موضوعه وطريقة تأليفه؛ ولما لهذا الكتاب من قيمة نسبةً إلى موضوعه أو الفن الذي ألف فيه، ويتجلى ذلك في قول المحقق: "إن كتاب النفح قد اتخذ الطابع الموسوعي الذي يجعله مغنياً عن عشرات الكتب".
حرص المحقق على الكشف عن بعض جوانب حقيقية في شخصية المؤلف المقري، فقد صنف الأديب كتابه بعيداً عن وطنه الأم، وفي ظروف تماثل الظروف التي عايشها المحقق ويعمل في جوها من غربة وتشرد وحنين إلى الوطن.
طبع نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب عدة طبعات منها: طبعة ليدن عام 1855م،وطبعة دار الكتاب العربي بيروت 1949م،بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد في عشرة أجزاء،والطبعة الأزهرية بالقاهرة 1302، أما إحسان عباس، فقام بإعادة نشره عام 1968م في ثمانية مجلدات.
إن دراسة تحقيق الدكتور إحسان عباس لكتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب من غصن الأندلس الرطيب تُساهم في الوصول إلى المنهج الذي سلكه المحقق في تحقيق كتابه،لذا يتوجب على الباحث وفق مناهج التحقيق المعتمدة أن يتحدث عن ثلاثة محاور،هي: مقدمة التحقيق،والمتن ونصوصه،والفهارس،وعلى هذا النمط سينظر الباحث في كل محور منها :
أ - مقدمة التحقيق:
بدأ المحقق عمله بإعداد مقدمة علمية وافية أثبت فيها ترجمة لمؤلف الكتاب المقري، فذكر مولده،ومؤلفاته،ودوافع تأليفه لكتابه،ومصادره،ووفاته،وجاءت ترجمته شاملة ومستفيضة؛ لاقتناع المحقق بأن هذه الترجمة تضيف مادة ذات قيمة من ناحية، ولارتباطها بالنص ارتباطاً وثيقاً من ناحية أخرى.
ثم تحدث المحقق عن أهمية كتاب النفح،وجاء حديثه بالغ الاتساع والعمق؛ لأن مثل هذا الحديث يساعد في فهم النصوص،ويربطها بثقافة المؤلف واتجاهاته.
حرص المحقق في مقدمته على توجيه النقد لمؤلف كتاب النفح المقري؛ ذلك لاعتماده على عدد من المصادر دون الاعتماد على أمهات كتب الأدب والتاريخ الأندلسي،بيد أنه التمس له العذر؛ لأنه ألف الكتاب في دمشق بعيداً عن الأندلس؛ كما أخذ عليه الاستطراد، وذكر الشيء الواحد في مواضع كثيرة من الكتاب،ومع ذلك؛ فإن وجود النفح" كان بمثابة الوثيقة النافعة في تحقيق المصادر الأندلسية،وقد اتخذ كتاب النفح الطابع الموسوعي الذي يجعله مُغْنياً عن عشرات الكتب التي يصعب الرجوع إليها مجتمعة في نطاق".
وقد وضع المحقق يده على مصادر المؤلف في كتابه النفح، وقدم نقداً لأسلوبه، وطريقة استخدامه للغة،وطريقة عرضه لمادته العلمية.
واتباعاً لقواعد التحقيق وأصولها قام المحقق بذكر النسخ التي اعتمد عليها،إذ استعان بثمانية نسخ بعضها مطبوع وبعضها الآخر خطي،وجعل نسخة ليدن التي أطلق عليها نسخة "دوزي"، وهي النسخة الأم؛ لما تتصف به من دقة وأمانة، مع الإشارة إلى سائر النسخ،فكان يرمز إليها برموز،ويذكر رقمها،وعدد صفحاتها،ومكان وجودها،مثال ذلك: (النسخة "ك")، وهي من المكتبة الكتانية التي ضُمت إلى الخزانة العامة بالرباط،( ورقمها: 2394 ك)،وتقع في(286) ورقة،وهكذا في سائر النسخ.
ب - المتن ونصوصه:
هذا المجال هو الميدان الحقيقي لإبداع المحقق، وإظهار ثقافته التراثية فيه، والأساليب التي يجدها لإنجاز عمله، وهو- في الوقت بنفسه - المنظار المعرفي لشخصية المحقق العلمية، حيث تظهر في هذا المكان خواف ما هو باطن في المخطوط، وإجلاء ما هو " ظاهر".
وقد اتبع المحقق الأصول والقواعد والقوانين العلمية المتبعة في تحقيق نصوص التراث ونشره التي منها :
ضبط النص ضبطاً دقيقاً وصحيحاً وكاملاً،والميل إلى تشكيل ما يستحق الشكل.
ربط أجزاء هذه النصوص بعضها ببعض، إن كانت متفرقة بين أبواب الكتاب وفصوله.
أخضع النص لعلامات الترقيم المختلفة،وقسمه فقرات تعين كلها على فهم النص فهماً سليماً.
شرح ما هو ضروري من المفردات الغريبة، فهو لم يستكثر من الشروح اللغوية التي تثقل الكتاب.
ترقيم بعض فقرات الكتاب، ووضع عناوين لأجزائه؛ كي يسهل على القارئ والباحث استعماله ومراجعته.
أما حواشي الكتاب،فجاءت مستوفاة،فقد أثرى المحقق النص في الحواشي بإضاءات وتعليقات وشروح،وترجمة للأعلامٍ ترجمات قصيرة،مع الإشارة إلى مصادر ترجمتهم، فضلاً عن ذكر الفروق بين الطبعات المتعددة،وقد كشف ذلك عن سعة اطلاعه على مصادر التراث المختلفة. فقد جمع فيها معاني الألفاظ الواردة،وصححها بالشرح؛ لأنه لا يقدم النص للمتخصص فحسب،وإنما للمثقف الذي يقرأ التراث، إذ قام ببيان المصطلحات، وردّ الشعر لقائله في الدواوين أو المجموعات الشعرية، وعليه جاءت حواشي الكتاب تعكس بدقة ثقافة المحقق إحسان عباس الموسوعية،ومعرفته بمصادر التراث،وجاءت الحواشي أيضاً تحمل في ثناياها معلومات قيمة تفيد كلاً من القارئ والدارس.
ت – الفهارس:
خَصص المحقق المجلد الثامن والأخير للفهارس؛ اقتناعاً منه بأن الفهارس تكشف عن مخبآت النص؛ لأنه لا يريد أن يَزْحُم حواشيه بأكثر مما ازدحمت به،فلا بأس أن تكون منفصلة عن النص، وقد جاءت الفهارس مرتبة على النحو الآتي: فهرست الأعلام، فهرست الأماكن، فهرست القوافي، فهرست الرجز، فهرست الموشحات والأزجال والمسمطات، فهرست الرسائل والخطب والتوقيعات، فهرست الأعلام، فهرست الأمُاكن، فهرست القوافي، فهرست الرجز، فهرست الرسائل والخطب والتوقيعات ، فهرست الكتب التي ذكرت في المتن، ثم ختم فهارسه بذكر المصادر والمراجع التي استعان بها في تحقيقه مرتبة ترتيباً هجائياً.
وحول منهج المحقق إحسان عباس وطريقته في التحقيق يقول الناقد محمد حور: "سار إحسان عباس على منهج مطرد في تحقيقاته قلما خرج عليه، أو ندّ عنه وأن حدث شيء من هذا، فإنه ينص عليه، ويأتي بالمبررات التي قادته إليه، وقد اتضح هذا المنهج في مقدماته التي افتتح بها كتبه المحققة، وجاءت هذه المقدمات وافية في مادتها من حيث التعريف بالمؤلف وبالكتاب، وخطة صاحبه فيه، ومادته، ومصادره، ومدى تأثر صاحبه بمن سبقه، وأثر الكتاب فيما صدر بعده في موضوعه، وكذلك نجد في منهجه أنه يضع نصب عينيه هدفاً لا يحيد عنه هو إخراج الكتاب بصورة أقرب ما تكون إلى ما كتبه مؤلفه في صورته النهائية، وإذا ما تحقق ذلك، فإن ما عداه يعد من النوافل".
ثالثاً- كتاب نفح الطيب بين طبعتين:
إن تحقيق الدكتور إحسان عباس لكتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب يثير قضية علمية مهمة، وهي قضية:" إعادة تحقيق أثر أدبي بعينه سَبَقَ أن حققه آخرون"؛ الأمر الذي يجعل القارئ يتساءل: أليس الأجدر بالمحقق أن يصرف جهده إلى تحقيق أثر أدبي جديد خدمة للتراث، وإحياءً له، بدلاً من أن يعيد تحقيق عمل أدبي حُقق من قبل؟
بيد أن النظرة الفاحصة إلى إعادة تحقيق الدكتور إحسان عباس لكتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تهدي إلى القول بأن هناك حاجات فنية، ومسوغات أصيلة مهمة حملته على إعادة تحقيق هذا الكتاب ونشره، وفي مكنة الباحث أن يتخذ من طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد أنموذجاً، والذي أخرج الكتاب في عشرة أجزاء (القاهرة 1949)، ذلك أن إحسان عباس قرر النهوض بتحقيق جديد للكتاب صدر في بيروت سنة 1968م، وجاء في سبعة مجلدات،أُلحق به مجلداً ثامناً وقع في (560) صفحة، اشتمل على الفهارس، ومن هذه المسوغات:
أ- إن كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب لم ينل من عناية المحققين ما ينبغي له، بالرغم من كونه أقدم كتاب أندلسي ظهر للنور، وعرفته المطبعة العربية،وكان مصدراً لأكثر ما عرفه المشارقة عن الأندلس في مدى مائة عام أو أكثر.
ب - إن التحقيقات السابقة يعتورها الترتيب والتنظيم،ولم تخلُ من أخطاء،ولم تتوخَ الدقة العلمية بشكل مقبول،ولم تشتمل على كل مخطوطات الكتاب، وأنها لم يعتمد على نسخ خطية.
ج - إن كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب لم يحقق تحقيقاً علمياً َوفْقا ً للقواعد والأصول العلمية المتعارف عليها لدى المحققين؛ ذلك أن تحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد يفتقر إلى الدقة والالتزام بالمنهج العلمي، ويغلب عليها الطابع التجاري، ولهذا فإن نشرته كانت دون المستوى المطلوب، ذلك أن ما حقق منه لم يكن تحقيقاً تاماً، فقد اعتمد على ثلاث نسخ مطبوعة، ليس فيها نسخة خطية، وكانت أولى طبعاته طبعة ليدن 1855 م التي تتصف بالدقة والضبط والأمانة العلمية، أما أولى طبعاته في المشرق، فكانت طبعة بولاق سنة 1279هـ، تليها الطبعة الأزهرية سنة1302 هـ، وآخرها طبعة كانت في القاهرة سنة 1949 م، بإشراف الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد الذي أفاد فيها من الطبعات السابقة، فجاءت على حد قول إحسان عباس "في صورة مقبولة نوعاً ما... وان كنت لا أعدها أصلا ؛ لأنها لم تعتمد على نسخ خطية".
في حين إن إحسان عباس اعتمد على ثماني نسخ، بعضها مطبوع، والباقي مخطوطة. فقد عثر العالم المحقق على مخطوطات جديدة أدق وأوفي من النسخ التي اعتمد عليها محمد محيي الدين عبد الحميد، فضلاً عن أنه جمع أشعار أخرى غير التي في الدواوين أو المجاميع الشعرية. بالإضافة إلى كثرة الأخطاء في تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، وبروز مزالقه.
ومما لا شك فيه أن تعدد نسخ المخطوط للكتاب الواحد يزيد من فرصة تحقيق الكتاب تحقيقاً علمياً، ويزيد في دقة تحقيقه في كل الأمور التي أخذها على الطبعات الأخرى.
رابعاً - إن ترجمة المحقق محمد محيي الدين عبد الحميد للمؤلف المقري، لم تأتِ تامة وافية، وإنما اعتورها النقص في الترتيب والتنظيم، فعلى سبيل المثال: بدأ الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد في تعريفه لمؤلف النفح بالحديث عن نسبه، ومولده ونشأته، ومؤلفاته، ووفاته، وضبط نسبته، وثناء العلماء عليه. والأفضل أن تجيء مرتبة على هذا النحو: نسبه، وضبط نسبته، ومولده ونشأته، ومؤلفاته، وثناء العلماء عليه، ووفاته، فضلاً عن أنه وقع في أخطاء عن ترقيم الصفحات، إذ إنه أهمل الصفحة الأولي من ترجمة المؤلف، وتركها بدون ترقيم، في حين أن الصفحة التي فيها نسبه ومولده ونشأته لم ترقم، إذ بدأ ترقيم مقدمته برقم(1) بداية من الصفحة التي تليها (1 – 11).
خامساً - اكتفي المحقق محمد محيي الدين عبد الحميد بوضع فهرس الموضوعات الذي ألحقه في نهاية كل جزء من أجزاء الكتاب، في الوقت الذي جعل فيه المحقق إحسان عباس الكتاب في سبعة مجلدات،أُلحق به مجلداً ثامناً احتوى على فهارس للكتاب، وهي ضرورية في مثل هذا الكتاب البالغ الضخامة، والذي يحفل بالاستطرادات. ويبدو أنه اهتم بالفهارس لأمور منها:
إن الفهارس تشكل إحدى نقاط الدلالة على أهمية الموضوع المحقق، ومن ثم تكون بمثابة مرآة عاكسة لجهد المحقق في التحقيق. وأنها بمثابة مفاتيح معرفية مساعدة، ليس للمهتمين فحسب، بل ولجميع حقول المعرفة الثقافية؛ لتسهيل عمل من يروم الدخول إلى عالم التراث، للنهل من منابعه، خدمة لهدف ثقافي أو معرفي...الخ، فضلاً عن كونها تسهل سرعة الرجوع إلى معلومة معينة يريدها القارئ العادي، كان تكون معرفة /اسم مؤلف أو اسم قبيلة أو مدينة أو التأكد من قافية شعرية، فليس بالضرورة لهذا القارئ أن يقرأ كامل الكتاب.
مهما يكن من أمر، فإنه يظل للشيخ المحقق محمد محيي الدين عبد الحميد فضل السبق في تحقيق الكتاب وإخراجه، "وحسب أي محقق لاحق أنَّ بين يديه كتاباً قد حُقق من قبل، ففي هذا عون على التجويد وتجنب المزالق".
وفي مكنة الباحث أن يوازن بين صورة النص عند في كلتا الطبعتين، فقد ورد في الباب الأول من مقدمة الكتاب للمقري قوله:
نسخة محمد محيي الدين عبد الحميد : ص( 23):
سبحان من قسم الحظو
ظ فلا عتاب ولاَ مَلَامَهْ
أعْمى وأعْشى ثم ذو
بَصَر وزرقاء اليَمَامَهْ
ومُسَدّد أو جائر
أو حائر يشكو ظُلَامَهْ
نسخة إحسان عباس: ص( 7):
سُبحانَ مَنْ قَسَمَ الحظو
ظَ فلا عتــاب ولا مَلَامَهْ
أعمى وأعشَى ثمَّ ذو
بَصَرٍ وزرقاءُ اليَمَامَهْ ( 1 )
وَمُسَددٌ أو جائرٌ
أو حائرٌ يشكو ظَلَامَهْ ( 2 )
الحواشي:
( 1 ) أي أن الناس متفاوتون في حظوظهم، فمنهم - من حيث الإبصار- الأعمى والأعشى، والحاد البصر الذي يشبه زرقاء اليمامة، وهي مضرب المثل في ذلك، وقصة رؤية الجيش الذي غزا اليمامة من مسيرة أيام مشهورة، وفي ق ط ج: أعشي وأعمي.
( 2 ) مُسَددٌ: حسن التوجه. الجائر: الحائد في القصد. الحائر: الذي لا هو مسدد ولا جائر.
من خلال الموازنة بين الطبعتين يتضح للمتلقي ما يأتي:
إن نسخة محمد محيي الدين عبد الحميد لم تُعر اهتماماً كبيرا ًبضبط الكلمات وتشكيلها، في حين أن نسخة إحسان عباس اهتمت بضبط الكلمات وتشكيلها بما يوضح المعنى ويجليه.
إن نسخة محمد محيي الدين عبد الحميد لا يوجد بها هوامش ولا تعليقات ولا إضاءات البتة، في حين أن نسخة إحسان عباس ورد فيها شرح وتوضيح وإضاءات،وإشارات إلى التراث الشعبي والديني؛ الأمر الذي أغنى النص وعمق معناه.
ونورد هنا مثالاً آخر في الموازنة بين الطبعتين يتعلق بضبط الكلمات تشكيل الكلمة الواحدة وضبطها :
فقد وردت كلمة " ظُلامة" في قول الشاعر:
ومُسَدّد أو جائر
أو حائــــر يشكو ظُلَامَهْ
محمد محيي الدين عبد الحميد : ضبطها (بضم الضاد) هكذا: ظُلَامَهْ.
إحسان عباس:
ضبطها (بفتح الضاد) هكذا: ظُلَامَهْ.
واللفظتان كلتاهما تخدمان المعنى، ولكن ضبط اللفظة في نسخة إحسان عباس(ظَلَامَهْ) (بفتح الضاد)، أقرب إلى المعنى المطلوب، وأدق في سياقها.
وثمة مثال ثالث في الموازنة بين الطبعتين، :
في نسخة محمد محيي الدين عبد الحميد ص ( 17 ) جاء ما يأتي:
" أحمدُ من عَرّف من حلى الأمصار وعلى الأعيان على تداولِ الإعصار وتطاول الأحيان...".
وفي نسخة إحسان عباس ص ( 1 ) ورد ما يأتي:
" أحمدُ من عَرّف من حُلى الأمصار وعُلى الأعيان، على تداول الإعصار، وتطاوُلِ الأحيان....".
يلمس القارئ في العبارة السابقة أن هناك فرقاً بين الطبعتين في الاهتمام بضبط الكلمات، ووضع علامات الترقيم بين الجمل في نسخة إحسان عباس، والتي تجلي المعنى وتوضحه.
رابعاً – خاتمة ونتائج:
خلصت ورقة العمل الحالية الى نتائج عديدة منها:
يعدّ إحسان عباس من أهم المساهمين في ميدان التحقيق والتثبت من النصوص وإخراجها، كما صدرت عن مؤلفيها، وإعادة تحقيها ونشرها.
أرسى بتحقيقاته القواعد والأصول والقوانين العلمية في تحقيق النصوص وتوثيقها ونشرها دون أن يؤلف في مجال التحقيق التراثي مؤلفاً علمياً واحداً.
كان إحسان عباس ذا منهج علمي دقيق ورصين في تحقيق نصوص التراث العربي القديم في مختلف موضوعاته، فضلاً عن التزامه الدقة والضبط والامانة العلمية. فلقد خاض المحقق ميدان التحقيق قوياً محصناً بأمانة علمية،وتوافرت لديه شروط التحقيق وأصوله، يقول في ذلك:" التحقيق العلمي لن يكون مخذولاً ما دامت تتولاه أيدٍ أمينة".
يعد إحسان عباس من المحققين القلائل الذين لم يكتفوا بما يطلق عليه ” خدمة النص” خدمة علمية في تحري الدقة والضبط، والشرح والتخريج، والتعريف بالأعلام، والأماكن، والتعليق والتذييل والتصويب، إنما جاوزه إلى مقدمات إضافية وافية، ودراسات عن الأعمال الشعرية التي حمل أمانة تحقيقها.
المتأمل في تحقيق إحسان عباس لكتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: بمقدمته،ونصه،وفهارسه،يمكنه أن يتعرف إلى منهجه في التحقيق والنشر،ويتجلى له بوضوح معالم هذا المنهج ومدى تكامله.
ظل إحسان عباس متمسكاً بضرورة التحقيق العلمي الممنهج للتراث،على أن يتحلى المحقق بسلاسة التحقيق ويسره،وأن يكون مقتدراً،ذا شخصية متميزة ومتفردة.
د. عبد الرحيم حمدان (ناقد وأكاديمي فلسطيني)