يُحكى أن حمارين تقابلا يوماً في أرض خصبة العشب والكلأ، وفيرة المشرب والمرتع.
كان الأول من الحمُر العصرية الراقية ، من ذوي الرفاه الاجتماعي والضمان الوظيفي، له حظيرة مرتّقة بالألواح الخشبية ومسمرة بقطع حديدية مهترئة، لا تكاد تخلو مخلاته من التبن والشعير وما تبقي من مخلفات البيوت، له عربة يجرها من الصباح حتي المساء بكل عزم وثبات، لها أربعة إطارات إحداهن مثقوبة منذ زمن، علّق له صاحبه بعضَ الدناديش المزركشة علي رأسه وبعضَ الأجراس المحفزة علي رقبته، ظانّاً أن لا أحد يبلغ مرتبة الشرف هذه مع كل الأوسمة والنياشين التي حظي بها جبينه ، فهو يرى نفسَه حمارا مدللا من أهل النبل والشرف، يستحق التقدير والترحيب من الجميع، لا سيما ذلك الضيف القابع أمامه .
أما الحمارُ الثاني فقد كان حمارٌ وحشي ٌمن النوع المخطط، ذات القوائم العالية والجسم العريض، والرأس المصقول، والعضلات المفتولة، لا يعرف التعب والنصب، مُلهب القوة والنشاط، فائق الفنن بالحركة والسباق، له قدرة علي العيش في البراري القفار منها والخصاب، يتكيف مع الجدب والقحط، له جلد علي شظف العيش وقسوة الحياة .
عزيز بالنفس ، فخور بالنوع، لديه انتماء للقطيع، يري دونه من الحمير كأنها حشرات وبعض من بقّ وآفاتٍ لا قيمة لها - بطبيعة الحال - التعالي والتكبر ديدنهما، كل منهما يعتبر نفسَه من عليّة القوم.
بعد أن دار بينهما حديث لزجٌ مطوّل انتهى بشنّ الحضري هجوماً كلامياً لاذعا، حانقاً عليه، يؤجج النار في الهشيم، لكنه مع فرط الدلال والدلع المدني، جاءت نبرة صوته حانية متبتلة، مذلة، تحيط بها النعومة المرهفة، والحس الرقيق المسالم، متكئاً بقدم ونصف علي جذع شجرة قائلا له : لماذ طبعوا عليك اللون الأسود والأبيض ؟هل يخافون عليك من الضياع؟
حينها امتقع وجهُ المخطط وزمجر بصوت الوحش الضاري، وراح يحرك رأسَه بعنف شديد ، فانفجرت أبخرة
أنفاسه العارمة مشتعلة، وكأنها الشرر المتطاير، وما انفكت حوافرها تقدح الصخر، تطحنها طحناً، كأن الوحشي كائن تحول إل تنين ثائر، فكّ من قيده للتو .
قال الوحشي: أظنني سمعت شتيمة للتو لا تغتفر ، اختر لنفسك ميْتة تريحك من عناء الدنيا يا ابن الوضيعة.
ولما رأي الحمار الخطر قادماً لا محالة ، وشر الموت مسبل إزاره عليه، تملكه الخوف والجزع، وراح يفكر بسرعة بديهة، لصنع حيلة للخلاص من الورطة ، وبطش الوحشيّ.
فقال للوحشيّ " لا عافاك الله " ليس هكذا تحسب الأمور، وما هكذا تدار الخطوب ، فأنا لم أذهب إلى ما ذهبت إليه من الفهم،
بل أنا معجب بك كل الإعجاب ، وإني لمغتبطك حظا وافراً من شأنك وشأن لونك الزاهي .
ولتقرّ عينك وليطمئن بالك ،دعني أوضح لك الأمر:
إنه في بلادنا الجميلة، وتقديراً لشأنك واعترافا بقوتك، وجلال قدرك، وبهاء ألوانك، وحدة فطنتك ومقياس ذكائك ..
قد وضعتْ ملوكُنا دستورا صارماً نتعهده، فقد رسمتْ سلطاتنا وسطّرت مثل ألوانكم على أرض شوارعنا خطوطا سوداء وأخرى بيضاء نعتوه ب زيبراzebra وأجبرونا نحن معاشر الحمير أن تدوس أقدامنا خطوطكم الزاهية، علّها تثبت في الأرض فلا تضيع منا ، فتحل علينا بركاتكم ونصيبُ منكم مباعث القوة والانفة والجمال ..
حينها هدأ روْع الوحشي وعَرف حسن مقصده ومحاسن نيته ثم قدم له وجبة دسمة من حشائش السافانا.
وانصرف الحمار وجبينه يتصبب عرقاً وقلبه يطبّل جزعًا ، أحسّ بالبلل تحته ، ثم انطلق متمتماً :
لولا حسن الإقناع وفصاحة اللسانْ .. لكنتُ في خبر كانْ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق