بوابة اليمامة الثقافية - فلسطين.
حسن قطوسة - كاتب فلسطيني
عندما تشيخ الذئاب
الرواية التي لم يرها صاحبها على الشاشة
كنت قد قرأت لجمال ناجي (الطريق إلى بلحارث ) وأعجبني فيها تلك التفاصيل التي كانت كفسيفساء أضاءت الحدث وغاصت في بواطن الشخصيات ،فليس هناك ما أقسى من أن يصر معلم على اصطحاب زوجته الحامل في أيامها الأخيرة للسفر عبر طريق صحراوي موحش إلى القرية التي يدرس فيها في عمق الصحراء ،وسبحان الله يفاجأها المخاض وتحدث الولادة ويخرج الجنين الذي تشكل من أمل وفرح وتفاؤل ميتا ،كأن بالكاتب أراد ولو من دون قصد أن يأد المستقبل الكارثي الذي كان ينتظر هذه المولود ،ولنا أن نعمل التأويل وفك الرموز في نص روائي ما زال متخما بالأسئلة حتى اللحظة ،وحدث أن أقتنيت روايته (عندما تشيخ الذئاب )قبل الغزو الإلكتروني بقليل ،إذ أخبرني حدسي الذي لا يخيب وقلبي الفلاح الذي يضج بين ضلوعي ،بأني سأكون في حضرة نص مختلف واستثنائي يستحق القراءة يمور بالقضايا الكبرى والأسئلة والوجود والشخصيات التي أفرزتها السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتراكمات التاريخ ومكر الجغرافيا ،وفعلا هذا ما كان لقد تناولت الرواية فترة التسعينيات في القرن الماضي في مدينة عمان والتحولات التي عصفت بهذه المدينة من خلال شخصيات متباينة تعيش في حارة فقيرة ، (الشيخ عبد الجليل الذي يستخدم الدين ستارة لاغواء النساء والايقاع بهن في حبائله الدنيئة ومع تطور يصبح هذا الشيخ أيقونة ويتحالف مع القوى السياسية ورأس المال وقد أحسن سلوم حداد تجسيد هذه الشخصية ، وهناك اليساري الماركسي الذي عانى شظف العيش ومرارة السجن وعرك الحياة وعركته وخبر الأحزاب ودهاليزها وطلقها بالعشرة ومع تطور أحداث الرواية يصبح صاحب شركات ورأس مال ضخم ويصبح كذلك صديقا لأعداء الماضي وحليفا استراتيجيا لهم وقد حاول عابد فهد أن يقدم هذه الشخصية بكل ما أوتي من قوة ،وهناك الحقوقي الذي بدأ فارسا طالبا للحق والعدالة والخير ومع تطور أحداث الرواية ينقلب صبيا عند الشيخ عبد الجليل ويتحول لرئيس عصابة متطرفة دينيا ،بالإضافة إلى كثير من الشخصيات التي كانت تقع تحت سطوة الشيخ عبد الجليل وتؤمن بقدراته وخزعبلاته دون الانتباه لأغراضه الدنيئة )الرواية باختصار تتحدث عن صعود المد الديني وتجاره وسقوط اليسار بأطروحاته الفكرية والايديولوجية في فترة التسعينيات من خلال حارة مهمشة في عمان ضمن أحداث شائقة وتغيير منطقي وطبيعي من خلال أداة الزمن التي تعصف بالشخصيات يمنة ويسرة وشمالا وجنوبا دون افتعال في الأحداث أو تماه مع الشخصيات أو تسطيح للأحداث ،وهذا ما يجعل القاريء العادي يحس بأنه يعرف هذه الشخصيات ويراها صبح مساء .
أذكر ولست أنسى المرة الأولى والأخيرة التي رأيت فيها جمال ناجي في المؤتمر الفلسطيني للرواية العربية دورة نبيل خوري برام الله في المسرح البلدي ،كنا نقف خارج المبنى نتبادل أطراف الحديث عن الندوة التي شارك بها ،حيث كانت بعنوان الاغتراب في الرواية ،وقد ابدى تبرمه وضيقه وقال أمام الملأ (لقد أستهلك هذا الموضوع ولم يعد مجديا دراسته أو حتى الحديث عنه )وبما أننا كنا في خضم اضراب الأسرى قال أيضا (لو شعر كريم يونس بتراخي الوعي الشعبي ربما سيتراجع عن اضرابه المفتوح عن الطعام ) فرد عليه المتوكل طه الذي كان يدير الندوة وقال (كريم يونس صاحب رؤيا وقضية كبرى ولن يتراجع تحت أي ظرف ) .
أذكر أني أشرت عليه بتحويل أي من نصوصه الروائية لعمل درامي لاسيما بعد تحويل رواية (سلطانة )التي كتبها غالب هلسة لمسلسل منافس نوعا ما ،فأبدى حذره من وضع الدراما الأردنية الغارق في المسلسلات البدوية لحد التخمة ولم يكن متشجعا إذ أن وضع الإنتاج الفني في الأردن لم يكن يراهن عليه ،وتحويل أي نص روائي لعمل فني يتطلب طاقات وقدرات وظروف انتاج وتسويق ،وفعلا هذا ما حدث في ٢٠١٩م إذ تم تحويل روايته عندما تشيخ الذئاب لمسلسل تلفزيوني لكن عن طريق طاقم فني سوري وتم نقل فضاء الأحداث لدمشق ، لكن دون أن يكون جمال ناجي مشاهدا لنصه الذي تحول لصوت وصورة أمام كل النص ،ودون أن يكون لبلده الأم أي دور في صناعة هذا الحلم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق