جدلية الوعي والذاكرة والتخيل في ديوان (علی مقام التجلي) للشاعر د/عمر هزاع.
بقلم :الناقد أيمن الجملي
بعد قراءتي لديوان علی مقام التجلي رأيت أنَّ تحليلا للمحتوی الدلالي والأسلوبي التعبيري المشخص لإنجازه الشعري الخصيب والمتميز مقسما إلی مقاطع والتحليل يزودنا بخريطة لرحلة الشاعر الخاصة المجهدة من موضوع إلی موضوع، ورأيت أنَّ مهمتي الأولية أن أأخذ هذه الوحدات الفكرية والعاطفية والبنائية والمجازية لأعيد تقديمها للقارئ بوصفها جوانبا منمطة متماسكة لها وحداتها ونبراتها الإيقاعية وموسيقاها اللغوية..
ومن أهم الأشياء التي دفعتني لكتابة هذا المقال أن الشاعر يصارحنا في همس شفيف عبر الصورة والرمز والمجاز...
و الشاعر يبغض رؤية العقل والوجدان الحقيقي والوهمي ، المطلق والنسبي ، الكلي والجزئي في أي موقف سواء في أخص الخصوص أو في أعم العموم..
والجميل هنا أن القصيدة تبدأ من ذاكرة الشاعر وتنمو عضويا فهو يعالج ـ برشاقة ـ أشد المواضيع غرابة والتجلي الذي عنون الشاعر به ديوانه إنما هو المفتاح الذي فتح به باب التأويل علی مصراعيه فنظن في بداية الأمر أن التجلي هنا التجلي الصوفي لكن المقصود بالتجلي هنا رفعة مظاهر تجليات وفيوض الوعي المفارق في صراع العقل والمخيلة..
والتجلي هنا محنة ونبوءة وأداة لإدراك الواقع وسبل أغواره ولغة للتواصل والاستحالة مع الآخرين..
وهو الأسطورة فتتصاعد النبرة الملتاعة أحيانًا وتهبط مرة أخری..
إذ يقول في قصيدته البرزخ التي نظنها وجدانية محضة من العنوان إلی آخر كلمة في القصيدة.. إذ يقول:
مُذِ انفَصَلتُ
استَعادَ الطِّينُ فِلذاتِي...
سُدًى!
أُحاوِلُ قَطبَ الشَّرخِ فِي ذاتِي!ٌ
ما زِلتُ أُغمِضُ عَينًا
عَن مُساءَلَةٍ...
لِكَي أُفَتِّحَ أُخرى
فِي مُعاناتِي...
هُنا أَنا!
أَيُّهذا الجِسمُ!
ثالِثُنا هَذا التُّرابُ!
يُنادِي:
(آنَ مِيقاتِي)
سَيَجمَعُ اللَّحدُ بَينَ المُبعَدَينِ
فَذا بَدءُ الحِسابِ...
وَيااااااا هَولَ الحِساباتِ!
وَيُسرَدُ العُمُرُ المَنسِيُّ!
ثُمَّ...
هُنا فِي بَرزَخِ الصَّمتِ
تَحكِينِي حِكاياتِي! (1)
فالذاكرة هنا تستدعي الشجن الذي لا ينام، وفي هذه القصيدة يَتَّحدُ الوعيُ والذاكرة والتخيل جنبًا إلی جنب وهنا نسير إلی تجلٍّ جديد لماهية ومعنی الجسد الذي يحكي من البرزخ عن حاله..
ونجد في هذه القصيدة أن الحروف لها قوة تفوق قوة الجمل ومن هذا المنطلق يعود الشاعر بلغة الشعر إلی لغة السحر حيث تستنزل القوی الخفية من عالم الغيب وهي تؤكد ما سبق أن لاحظناه من شاعرية التعبير وتجريد اللغة من واقعها لإعطاء نوع من الوجود غير المادي نصف الواعي على الموضوع كله..
ومن قصائده التي يستعين بذاكرته بها قصيدة: علی بعد خطوة أو خطوتين
يقول:
يُصارِعُ الوقتَ
- هذا الوحشَ -
إِنساني
وَكُلَّما أَلَمًا أَدمَنتُ
أَدماني!
وَكَم! وَكَم!
بِيَدَيْ... هاتينِ...
كُنتُ
- أَنا -
أُمَزِّقُ الحُلُمَ الباقِي!
وَأَسناني!
مُثَقَّبٌ...
مُتَهاوٍ...
مُتعَبٌ...
قَلِقٌ...
مُبَعثَرٌ...
مُتَرَدٍّ...
أَوَّلٌ...
ثانِ...
كانَ اليَقِينُ بِهذا الحُبِّ مَسأَلَةً
تَعَقَّدَتْ
فَتَهاوى كُلُّ إِيماني!
ماذا تُرِيدِينَ مِنِّي؟!
لَم يَعُدْ بِيَدي
أَن أُنقِذَ الوَهمَ مِن مَحدُودِهِ الفاني...
تَلَمَّسِي سِكَّةً ما...
وَاسلُكِي سُبُلًا بَعِيدَةً عَن دَواوِييني
وَأحزاني...
هُنا أَعِيشُ...
هُنا مَوتي...
هُنا جَدَثي...
هُنا انِبعاثِيَ...
مِيقاتِي...
وَمِيزاني...! (2)
فالتجلي هنا تجلي الحلم المفارق والمحلق في أبدية فوق حدود الممكن في الواقع المحدد.. ويبلغ ذراه واكتماله وشفافيته وشوقه المستحيل في الحنين والوصال مع الآخر ومع وحدة الكون..
هذه محاولة متواضعة تحاول إثبات أن المدی الشعري عند عمر هزاع لا يكتفي بأن يفتش عن حاجته خارج الذات الشاعرة من خلال التراث الإبداعي المتراكم وإنما يوجه المسار إلی الأسرار البعيدة ويرتاد روح الحياة ذاتها لكي يستل منها أعماقه وهو بذلك يرتاد تجربة ناضجة قوية فريدة
ــــــــــــــ
1 ـ قصيدة البرزخ ديوان علی مقام التجلي دار السكرية مصر ص 27 ط1
2ـ قصيدة علی بعد خطوة أو خطوتين نفس المصدر ص 75.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق