صالون نون الأدبي يحتفل بعيده الثامن عشر والمجموعة القصصية الصفعة الثانية للكاتبة فلورندا مصلح.
غزة - فتحية صرصور.
عند الخامسة من بعد عصر يوم الأحد الموافق 16 يونيو كانت جلسة دوحة الأدب من صالون نون الأدبي، افتتحت الأستاذة فتحية صرصور اللقاء والذي يتزامن مع إضاءة الشمعة الثامنة عشرة لصالون نون الأدبي فقالت:
الحضور الكريم .. رواد صالون نون الكرام
أهلا بكم ومرحبا، أهلا بكم في لقاء جديد بعد شهر رمضان المبارك، تقبل الله طاعاتكم، وبعد عيد الفطر السعيد، فكل عام وأنتم بخير
نلتقيكم في عيدنا وعيدكم، لقد أطفأنا شمعتنا السابعة عشرة، واليوم نضيء بكم شمعتنا الثامنة عشر من عمر صالون نون الأدبي، هذا الصالون الذي راهن الكثيرون على أنه زوبعة في فنجان، ولن تصمد به ثنتان منفردتان بلا دعم ولا مقر
لكننا خيبنا ظنون المتشككين، وأسعدنا من تمنوا لنا البقاء
كانت البداية فكرة، وكل مشروع يبدأ بخوف إلا مشروعنا؛ كان سريع التنفيذ، واثق من النجاح، لأننا لا نبتغي من ورائه إلا الخير لأهل الخير ثقافة وأدب
اجتهدنا وبذلنا جهدنا لنحافظ عليه قائما ومستقلا، التقينا بالرأي والرأي الآخر فتقبلناه، احترم بعضنا بعضا، فكل منا يستفيد ويفيد
لم نخسر أحد لأن رأيه مختلف عنا، فأنا وأنت اثنان ولن نكون أبدا واحد، لذا فإن لك رأيك ولي رأيي وبيننا نقاط التقاء كثيرة، ونحن نستوعب الجميع ونقبلهم
الصالون كالقطار، تستقلونه فيتوجه بكم نحو المتعة والثقافة والصحبة الجميلة، نرحب بكم جميعا ونسعد بصحبتكم
ثم قالت الأستاذة فتحية عن صالون نون
قال ويش تعني لك نون
قلت لك حق تسأل يا زين/ ترى إنك شايفنا بالقلب نهواها
*
نون أقواس لقباب النصر تبنيها/ وترفع الشكر للإله بأياديها
لفكرة بدأتها مي / بالعقل والقلب فتحية تراعيها
وبرمش العين نحن ثنتينا نغطيها
*
نون الأدب ولقاء الناس المثقفين/ نون صحبة وفا صحبة علم وتنوير
نون عالية وغالية ما ف يوم تهون/ نتعب نشقى لأجل الثقافة كله يهون
لو كنت عليلة لجلستها من رقدتي أقوم/ نون دوم عفية وصحبة مي الهنية
وكذا صحبتكم يا الحضور
*
قالوا مطرح ما ترسي دق إلها/ والثقافة في نون تضوي قناديلها
*
يا خيي قولها وما تخفشي/ نون قمر أربعطعشي
وغيرنا نحن ما نشبهشي
محبة وطيبة/ ثقافة وأدب والإخلاص فينا ما يتوصفشي
*
نحن في الصالون عيلة أخوة وأحباب
أبدا ما بينا خلاف ولا عتاب
ومنّا كل التحيات للي حضر واللي غاب
**
ثم قال: حضورنا المميز
لقد حاول أعداء الثقافة أن يسحبوا البساط من تحت أقدامنا، فخرجنا من محافظة غزة، لكننا لم نيأس ولم نتوقف، تنقلنا بين عدد من القاعات والمراكز، إلى أن ثبتنا في منارة الثقافة مركز عبد الله الحوراني، ليأتي عدونا الأزلي قاصفا المركز ظنا منه أنه بهذا يسكت صوت الحق، وكلمة الوعي والثقافة، لكن أنّى له ذلك، سنبقى بإذن الله ورعايته، سنبحث في كل مكان، ووجودنا اليوم في بيت الصحافة العامر أكبر دليل على ذلك، فلن نعدم من يدعم الثقافة والأدب، ويسعد باستمرارية صالون نون الأدبي
وليس ذلك هو الوجود الأول لنا في بيت الصحافة، فقد استضافنا هذا البيت الفلسطيني ممثلا بالأستاذ بلال جاد الله، عندما ضاقت بنا الحال بإغلاق محافظة غزة إلى أن عدنا لمركز عبد الله حوراني
وها نحن رغم المآسي نضيء شمعتنا الثامنة عشرة، لنعلن للقاصي والداني أن صالون نون الأدبي صوت لن يسكته هدم حجر، ولا ظلم بشر
هذه خلاصة سبعة عشر عاما مضت، لكن رغم المعاناة فنحن سعداء بما قدمنا، إذ استضفنا بها العديد من الكتاب والمبدعين، ناقشنا العديد من الموضوعات، نسأل الله أن نكون نجحنا في إيقاد شمعة في ظلام غزة المحاصرة
نلتقيكم اليوم في جلستنا الأولى من عامنا الثامن عشر بضيفة مبدعة كتبت فأبدعت إنها الأستاذة فلورندا فخري مصلح، من قرية كوكبا الفلسطينية
متزوجة، وحاصلة على بكالوريوس لغة عربية / رام الله
تعمل بمنصب مديرة لمدرسة غزة الابتدائية المشتركة (ب)
عملت معلمة لمبحث اللغة العربية في مدارس وكالة الغوث في مخيم البريج حيث مسقط رأسها، وذلك لمدة ثمان سنوات ثم تم ترقيتها لوظيفة مديرة مدرسة في عام 2003 (فكانت آنذاك أصغر مديرة مدرسة في وكالة الغوث)
كتبت القصص القصيرة منذ المرحلة الثانوية، وكانت تراسل مجلة الفجر الأدبي، وجريدة الميثاق والعديد من الصحف والمواقع.
نشرت مجموعة من القصص في مجلة خاصة بكلية مجتمع رام الله عندما كانت طالبة هناك.
تقدمت لجائزة الحرية للأسرى على مستوى فلسطين وفازت بالمرتبة الثانية عام 2010م، إذ كانت المرتبة الأولى من نصيب الشاعر الكبير الدكتور المتوكل طه، وتسلمت جائزتها شخصيا من الدكتور سلام فياض رئيس الوزراء في تلك الفترة في قصر الثقافة برام الله.
لها مجموعتان قصصيتان إحداهما للأطفال غير منشورة حتى الآن، وقد طبعت مجموعتها القصصية (الصفعة الثانية) في العام الحالي.
نستمع الآن لها وهي تحدثنا عن الكتابة في حياتها وعن خلفية الصفعات الأولى والثانية التي وثقتها في قصتها التي تحمل ذات العنوان لمجموعتها
بدأت الأستاذة فلورندا حديثها مقدمة شكرها لجماعة صالون نون الأدبي
ثم قالت: بداية أنا أديبة ولست روائية، بطبيعتي الشفافة أستخدم لغة شعرية، أستثمر المكان، ثم إنني لا أسعى للشهرة
وعن تجربتها الأدبية قالت: "الصفعة الثانية"، هي مجموعة من القصص القصيرة، تميزت بلغة مكثفة، جسدت اللحظة الزمنية في قبضة روح خاطفة على الزمان والمكان، للتعبير عن قضايا مجتمعية، وتفاعل الذات الفلسطينية مع محيطها.
اخترت العنوان (الصفعة الثانية) ليعبر عن إمكانات هائلة في فهم المجموعة القصصية وتأويلها، إذ يمكن اعتباره أيقونة لا يمكن الاستغناء عنها، حيث يحدد شكل القصص التالية، وربما كان المفتاح لأبواب مغلقة، فقد تم اختياره من عنوان القصة الأولى في المجموعة، عندما وصم المجتمع المحيط بالفتاة أنها صفعة، ولكن أردت أن تكون هذه الصفعة لعادات بالية.
كتبت قصصي من بعد اجتماعي لا يخلو من عمق الشعور الوطني، بحماية الذاكرة واسترجاعها، عبر التأكيد على المكان وملامح الشخصيات، وأساليب معيشتها في المخيم أو المدينة أو الغربة، وتعبيرها بجميع حالاتها لكل محاولات الطمس والمحو والتذويب.
كما أنني برغم الهم الأكبر لشعبي، لم أغفل تسلط المجتمع الذكوري أحياناً، فالتحرر لا يكون بمواجهة الآخر المتسلط في الخارج ومن الخارج، بل ينبغي مقاومة التسلط الكامن الداخلي الذي لا يستطيع أن يفصل بين وضعيته الصعبة وبين سلوكه الخاص. وهذه التناقضات تسيرها أحداث القصص بدهاء، لطرح المزيد من التساؤلات وتعرية الجوانب المظلمة، وبروز نجاحات المرأة في لغة شفافة بعيدة عن الاتهام المباشر، فالكل ضحية في نهاية الأمر.
أكتب بلغة الشعر قصصي القصيرة، فأنا أديبة ولست روائية، وثمة فارق بين لغة الروائي الذي يروي وتهمه بالدرجة الأولى الحكاية، ولغة الأديب الذي تهمه لغة الأدب.
قصتي القصيرة تقترب من اللغة الشعرية، ولكنها تعطي مجالاً أكبر من الشعر لطرح قضايا أكثر عمقاً في التفاصيل، والجوانب الخفية للحياة الإنسانية، وهي أصلح الأنواع الأدبية، لتركيز رؤية في لحظة إرادية بكلمات قليلة، وصور زاهدة بالملامح، كما أن العوامل المكانية والزمنية التي تظهر في القصة وإن لم تكن مباشرة، لكنها تؤسس للحدث، وتنزع نحو تكثيفه بصورة أكبر؛ حتى يتصور القارئ الوضع بكل تفاصيله فيتفاعل مع الحدث.
المكان له الأثر الكبير في كتاباتي، أستثمر المكان بشكل كامل لتحويل الطاقة الإيجابية فيه إلى إبداع في الكتابة الأدبية.
إذ كلما ضاقَت بنا المساحات اتسعت دوائر الإبداع. أعتقد أن ما من مكان يفجر ألغام الإبداع أكثر من فلسطين بصفتها فضاء مفتوحاً.. وبصفتها حالة عصيّة على الموت. تناشد الأفق المفتوح وتلهث وراء النجاة.. وتجد فيها قلق المبدع أضعاف قلق من يعيش خارجَ سياق المكان ومآزقه. من هنا، تشعر أنها فضاء نفساني يثير غرائز الموت والحياة في نفس الآن..
إنها قضية الثنائية الموت والحياة، تطل علينا في لحظة تفجر الرغبة بالكتابة على شاكلة ملاك يعيننا على الكتابة، أو يود لو أعاننا في أمرها، إلى أن نطلقه في سبيله نحو الفضاء. على شاكلة نخلة تراقصنا على ألحان قديمة نستسيغها وتعيدنا نحو زمن تشرّب حبا للأرض وموروثاتنا القديمة.
أعود في قصصي إلى إيقاعٍ يتأنى، يأخذني رويدًا رويدًا، بصمت سائد وقصص قصيرة تحاكي الحياة بعبثيتها ولكن بصمتها وضجيجها وإيقاعها، المحسوب، علينا ولنا.
أكثر القضايا المؤرقة لي بعد هم الوطن الممزق، هي قضية المرأة وموقعها في المجتمع، أريد أن أكتب أكثر عن الدوائر المغلقة بكل جرأة وموضوعية.
أنا إنسانة شفافة بكل معنى الكلمة، لا أركض ولن أركض يوما وراء الشهرة، أكتب دون ضجيج وسأكرس كل ما أوتيت من وعي ثقافي للأهداف الإيجابية البناءة وخدمة الثقافة الحقيقية وقضايا شعبي الوطنية والاجتماعية.
واختتمت بما بدأت به فقالت: في النهاية أعرب عن امتناني للقائمين على صالون نون لاستضافتهم لي، كي أتحدث عن تجربتي، وهذا دور الصالونات الأدبية الشحيحة في الوطن والتي يجب أن تستعيد دورها في حياتنا الثقافية.
بعد أن أنهت الأستاذة فلورندا حديثها قالت الأستاذة فتحية: نتوجه لشيخ الروائيين والداعم الكبير لصالون نون الأدبي ونشاطاته، الأستاذ غريب عسقلاني الذي قرأ القصص وقال كلمته فيها
بدأ الأستاذ غريب عسقلاني قراءته في الصفعة الثانية متحدثا عن دور الحكاية في القصة القصيرة قائلا: يضم كتاب فلورندا مصلح الصفعة الثانية الصادر عن دار الكلمة بغزة 2018م، باقة من القصص القصيرة والنصوص، تشحذ الكاتبة من خلالها معرفة متنوعة في مجالات الكتابة وعلوم التربية بحكم عملها في مجال التعليم، وتستند على موهبة مؤرقة ومتحفزة عند اختبار مجريات الحياة وهموم الناس من حولها، وتعكس تداعيات الأحداث على حياة الناس في غزة المحاصرة بالعدو المتربص، وثقل تباينات اجتهادات التيارات الوطنية المتباينة في وسائل المواجهة.
يضم الكتاب (13) قصة قصيرة امتلكت شروط الفن القصصي وتعددت فيها زوايا التقاط المعاناة الفلسطينية، من الرصد المباشر حيث تقوم الكاتبة بدور الراوي العليم الذي يكتفي بالإخبار المباشر عن حوادث ممكنة الحدوث مع الاهتمام بالحبكة بقدر الإمكان ما يحيل الكتابة إلى القصة الصحفية أو الربورتاج الفني في بعض الأحيان، وفي قصص أخرى تمتطي الكاتبة موهبتها ومعرفتها ولغتها الشفافة المشفرة الأقرب إلى الشعرية كأداة للإرهاص أو التنبؤ أو الإزاحة نحو موقفها الفكري أو الأيدلوجي..
فنجد في قصة الصفعة الثانية تداعيات خبر موت أسير - محكوم بثلاثة مؤبدات – بعد إصابته بمرض السرطان داخل السجن، أعتقل عريسا وقد ترك وديعته جنينا لدى زوجته وأمه وأبية، وعاشت زوجته على انتظار بين الأمل والرجاء، وكذا ابنته التي تناديها جدتها باسم " الحبيبة" بين غصة الأمل والرجاء "ليتها كانت ولدا" وقد بلغت الطفلة سن العشرين تتأمل صورة الغائب، تشحذ ريشتها وترهف السمع لموسيقا وأغانٍ وأصوات بعيدة فقد كانت أمنية الأسير أن تصبح طبية، ولم يتوقع أن تكون فنانة متميزة، توجه كل خطابها الفني نحو تشكيل لوحة بطل طال انتظارها لعودته..
وسط العويل والبكاء وغيبة الجدة والجد، والذهول من وقع الخبر، كان لصوته وقع معذب في أركان الروح وباتت ريشتها ندية ترسم حمامة بيضاء ترفرف صادحة بين زرقة السماء وخضرة الأرض، وكأنها تؤكد أن الشهداء يعودون لأنهم المنتصرون، فهم الذاكرة والأمانة الجمعية التي تدق نواقيس الحيطة والحذر عند اختلاط الرؤى وصراع الإرادات.
وفي قصة رحيل تقول: "في بيت طفولتي لوحة مفقودة، وفي حديقة بيتي الجديد لم تزهر سوى وردة واحدة لونتها ريشتي في تلك اللوحة المفقودة." هل هو حصاد ما قبل الرحيل عند خسران اللحظات المؤجلة!
وعلى بنية شديدة التكثيف تعكس القصة حالة صدام داخلي مع ذات تواقة للانعتاق من محيط يحبط الرغبات، ويحيل الحياة إلى فصام ممتد، مع لغة شديدة التقنين والترميز تأخذ القارئ إلى ما بعد الكلام نحو حياة فقدت مقومات التماهي والتكامل بين الظاهر والباطن, ما يحيل إلى متاهات الخسران، ويضع القارئ عند حيرة التأويل، فيما شريك الحياة يدرك اختمار الوقت بعد فوات الأوان وكأن المعايشة القسرية قدرا مفروضا "تنهدت الصعداء، وناولتني مرآة صغيرة خبأتها بين شجيرات نمت فجأة على حافة طاولتنا، كان للمرأة وجهان، في الوجه الأول خرجت لي امرأة تصيح بصوت ملتاع، تطلعت للوجه الآخر، كان وجهي مكتوم اللون يميل إلى زرقة، والنظرة في عيني جامدة.."
نص مكتنز بالدلالات والرموز والغموض يسحب القارئ لفك شفراته.
وفي قصة أقلام المطر: هواجس امرأة عاملة مغتربة فقدت المسرة والحب في مارثون العادي اليومي، فيما رفيق الدرب يرى حريته كأمير يمسك لجام ترويض مهرة أصيلة.. كلاهما منفصل برغباته، هي تبوح أمام المرآة قبل انطلاقها للعمل تضع قناعا يخبئ رغبات تسافر في شوارع ورغبات مرجوَّة، معلق قلبها بطفلين تتركهما وديعة عند مربية، فيما صوته البعيد محذر بعنجهية واثق لوثتة بلاد الغربة: "ستندمين"
نص مشرعة نوافذه على مناجاة النفس والعلاقة مع الشريك التي وقعت في براثن شرقيته المضطربة باعتباره ربان السفينة، لكنه لا يدرك الإبحار في ضباب العتمة، وأنها تعيش الغربة تقلب عبث وحدتها.. وقبل أن تفكر بالانتحار يقفز طفلها إلى حضنها هربا من جور أخيه، فتقرر العودة بطفليها إلى بلد يحفظ مواسم المطر والخصب، فتراقب قطرات غسل زجاج نافذتها برفق وترسم لوحتها من جديد، تقتفي دورة الأمل فها هو شباط يغسل كانون من غيومه السوداء، وها هي يد تزرع آذار في القلب قمرا ًمعذبا بحنين سيزهر أمنيات جميلة يوما، كما نجمة مسافرة إلى وطنها لتعيد النظر في العلاقة برجل فقد البوصلة..
وفي قصة الرواية: كاتب شاب يرسم على صناديق أحواض النعناع والريحان المعلقة على شرفته المطلة على الحارة نقوشا تبدو كفسيفساء تكمل المشهد الأخير من روايته، فيما صديقته البعيدة تستحثه عبر وسائل التواصل على سرعة الانتهاء من فصل الرواية الأخير حتى يدخل المسابقة ويتمكن من السفر..
ينام ويصحو على صوت أمه ترتل أدعية الصباح، فيلوذ بحضنها حتى مطلع الفجر، تمسد بكفها الخشن المُعروق منابت شعر وجهه، فتحف إليه الصور والأحداث..
وفي الصباح يتصل بصديقته البعيدة يخبرها أنه انتهى من روايته وإنه سيهديها لأمه وللقراء في بلده.. وفي لحظة خاطفة أسرع من ومض البرق في السماء فتح نافذته على الحارة التي لم يقطع تخومها مهما أوغل في السفر..
وهنا تبدو الرسالة واضحة أمام الجيل الذي يغريه التميز خارج الوطن مهما عاني من الشقاء والعزلة وانعدام الفرص، والنكوص عن مغامرة تحقيق الذات داخل الوطن، وكأني بالكاتبة تؤكد مقولة أن الوصول إلى العالمية ينطلق من الصدق والانتماء إلى المحلية بكل تجلياتها ومصاعبها ومواريثها ومعتقداتها الضاربة في تشكيله منذ القدم..
أما قصة باقة ورد: فتدور حول دورة الحياة في مجتمع يصدر أولاده للغربة بحثا عن سبل العيش، فيما الآباء باقون مع ذكريات وقفت عند الوحدة يواجهون أقدارهم، وكأني بالكاتبة تلتقط نموذجا حقيقيا يمثل الحالة في المجتمع الفلسطيني في رحلة الصراع مع الأقدار يبقيه معلقا على مشجب الانتظار، لكنها الحياة لا تنتظر كما في حالة رجل سبعيني وبقايا عافية وعمر يواجه الهواء البارد المحمل بحبيبات تراب مسنونة تخز وجهه، يتساءل: هل هو خريف العمر؟
وانطلق بعد أن أغلق أنبوبة الغاز ومفتاح الكهرباء إلى المستشفى حيث ترقد زوجته، فكر بشراء باقة ورد ولكنه عدل عن الفكرة تحسبا من تعنيفها وتذكيرها له بري شتلات الورد وفتح النافذة حتى يمر الهواء، وتساءل وهو يواجه الهواء البارد المحمل بحبيبات تراب مسنونة تخز وجهه، هل هو الخريف أم الشتاء وانطلق إلى المستشفى..
لم تعاتبه كما كل مرة وأخذا يتبادلان الحديث .. هزت يدها الضعيفة تطلب كأس ماء، خرج من شروده همس" اتصل أحمد وسامي ويسرا طمأنتهم على صحتك" وطلبوا أن اشتري لك هاتفا محمولا ليتصلوا بك، ردت بحزم المهزوم " لا أريد أن يسمعوا صوتي الضعيف"، شرد بعيداً مع الأولاد والأحفاد أيام كانوا يملئون البيت الذي بات خاويا.. هزت يدها الضعيفة تطلب كأس ماء.. حدقت فيه بشوق قديم، خرج من الغرفة مسرعا وسرعان ما عاد بباقة أزهار بيضاء وراحا يضحكان حتى اهتزت الغرفة وداهمها السعال وتناثر الورد على السرير..
في هذه القصة ترصد الكاتبة أحداث ربما تحدث كل يوم وفي كل مكان، لكن طريقة المعالجة تشي بقدرة الإفصاح عن خفايا النفس البشرية بلغة شفافة تطرح النوازع والرغبات البشرية على متن مفردة موحية تحمل شحناتها وبلاغتها بيسر ودونما إقحام محمولة على صوت خفي يضبط ويوجه مجريات السرد.
وفي قصة بلا رأفة: صدام مع سطوة المواريث حتى وإن كان الأمر محض إشاعة سرت مثل أفعى جابت شوارع الحارة وتسللت إلى البيوت، تضع الموءودة أمام حتفها، وتعلق شرف العائلة حول عنق كبير الأخوة، وإن كانت الضحية "امرأة جميلة قدها غصن البان وجهها حب الرمان "كما قبل القيل والقال "وإن كان حامل الأمانة "رجل يحمل قلبه وأحلامه يتبع وعيه بتاريخ الشعوب، وتعدد وتلاقح الثقافات وقواسم المشترك بين القوانين والأعراف والأديان!"
يحمل سيفه ويدخل عليها مكومة مذعورة يسقط السيف من يده، فتلتقطه وتفقأ قلبها وترميه بنظرة عتاب، وسط تهليل الأخوة والأقارب مهنئين بغسل صفحة سوداء، "أما هو فيسير حاملا نعشها متقدما إياها إلى مقبرة الأحياء!!"
هل تطرح القصة تحكم الرجل في أقدار المرأة؟ أم عدم قدرة الرجل على التغيير بالمشاركة الفعالة؟ وفي كلا الحالين تكون المرأة الضحية، ويعجز الرجل عن كسر التابو الموروث، ولعل هذا ما انعكس على لغة السرد التي نحت إلى لغة رمزية مشفرة تضع القارئ أمام رموزها ودلالاتها.
في قصة الجميزة: عن الميراث وعودة المهندس المغترب بعد سبع سنين حاملا معه أمسه القريب والبعيد في بيت الجميزة التي تجاوز عمرها المائة عام وما زالت تطرح سبعة بطون في العام, والتي حفظت تاريخ الآباء والأجداد وطبعت حكاياتها ملامح طفولة المهندس وصباه بفروعها التي تظلل البيت بثمارها الحمراء اللامعة مع وهج الشمس، وتغري العصافير ببناء أعشاشها الآمنة وتوفر لها زادها من ثمار الجميزة وخير الأرض من حولها، وكيف كانت أغصانها العالية مرقده ومرصده لرؤية بنايات المدينة، بضجيجها وبحرها، فيغمره فخر حارس أحلام المدينة وامتدادها اللامتناهي..
يخبره أبوه أن أرض الجميزة البالغة دونمان ستقسم بين أبيه وعمه، فيعود المهندس ويشتري الأرض ويقيم بيتا للأسرة حول الجميزة، ويقيم مشروعاً سكنيا عاليا يطل على المدينة، ويعيد الحكاية من جديد.
القصة ترهص بعودة الفروع إلى الجذور، وأن الغربة مهما طالت يعقبها عودة مؤكدة، فهل بلغت الكاتبة رسالتها؟
اعتقد أنها فعلت ذلك بذكاء وبسرد تلقائي لا يتخفى خلف تأويلات ملتبسة.
أما قصة بيت الجدة: فتعالج مشهدا موازيا يطرز لوحة رومانسية واقعية، إذ تستعيد القاصة عالما مأمولا يعيد اجتماع الفروع حول الأصول مع توفير الظروف التي تمكن من ذلك دون معوقات، ظهر ذلك في الوليمة الشهرية التي تقيمها الجدة في بيتها، للأبناء والبنات، حيث يبدأ اليوم بتناول الإفطار بما لذ وطاب من شطائر وفطائر وعصائر وحلويات لا تتوفر في الأسواق، وتنتهي بالغداء على خروف تجهزه الأم على النار، فيما الأطفال يمرحون في الدار، والصبايا يستعرضن مواهبهن وجمالهن وحكاياتهن، أما النساء المدعوات فيساعدن الجدة في إعداد الطعام، وفي نهاية اليوم يغادر الضيوف، ويأتي دور الجارات لتوزيع الفائض، على أصحاب النصيب من الجيران..
تعتمد القصة على السرد المباشر القائم على الإخبار والوصف المحايد، ما يولف بين الشكل والمضمون ويعزز روح التكافل بين أفراد الأسرة ويعمق التواد بين الأجيال، ويعطي صورة لعائلة مركبة تفرعت إلى عائلات نووية "عنقودية" تحتفظ بالميراث العام، ما يحيل القارئ إلى تخيل مجتمع مستقر لا يعاني الأزمات والمشاكل، وكأني بالمؤلفة تفتقد هذا النموذج في الواقع الفلسطيني في الظروف الحالية بسب الاحتلال وما يعانيه المجتمع الفلسطيني من شقاق واختلاف تحت سطوة عدو جائر
وفي قصة نزيف داخلي بانوراما تميل للقصة الصحفية، التي تلتزم الوقائع بدون رتوش تخل بالإخبار عن بعض ما يجري في الحياة، وإن قامت على صدفة محتملة الحدوث، جمعت بين طبيبة عائدة للبيت بعد يوم عمل، وسيدة بدينة في سيارة يقودها سائق غائب مع أغنية راقصة، وفجأة ترتطم السيارة بحاجز إسمنتي يعترض الطريق! وفجأة ترقد الطبيبة والبدينة في قسم الحوادث في المستشفى رفيقتان تتبادلان الهواجس والحكايات، فتعود السيدة البدينة إلى طفولة سعيدة مع أم تتفانى في تربية أولادها وتوفير المناخ المناسب للنجاح، ثم تفارق الحياة وهي نائمة دون شكوى من وجع، فتعيش الأسرة تحت سطوة زوجة أب تستنزف طاقاتهم في خدمتها، لكن روح الأم ظلت سراجا هاديا حتى اجتازوا لعنة الفقد ونالوا ما رسمته الأم الغائبة، أما الطبيبة التي أنست لرفيقتها فحدثتها عن القطة التي نامت خارج البيت مختبئة في شجرة الأسكادنيا وفرح أولادها بعودة القطة للبيت، وعن مريض شاب يعاني من التهاب السحايا، وامرأة شابة تعاني فقر الدم وزوجها المسجون من شهرين بسبب عدم قدرته على دفع إيجار البيت المتراكم لأكثر من سنة، وعن عجوز ثرثارة تعاني من أمراض عدة وتصب جام غضبها على جيل الأطباء الشباب الذين لا يراعون كبار السن، تعلن السيدة السمينة عن أمنيتها بأن تكون طبيبة لكن إرادة زوجة الأب اختارت لها دبلوم دار المعلمين حيث التعليم المجاني لتصبح معلمة..
وعند الفجر عانت السمينة من صعوبة في الرؤيا وضيق في التنفس، وأسبلت جفنيها باستسلام محارب قديم لا يرغب في العودة إلى أرض المعركة.. وكأن القاصة تصرخ من أعماقها أن ثمة حلول غائبة..
وفي قصة يوم ماطر: " كم خشي أن يضيق الأفق ولا يلد الجفاف إلا الأوراق الصفراء, ولكنه مع مدرار منهمر القطرات", تلتقط الكاتبة حالة شائعة لشاب جامعي لم ينتظر في طابور الوظيفة، فاشترى سيارة يعمل عليها ويعيل زوجته وطفله، فتفاجئه الزوجة بادخار عيديتها لشراء مدفئة تقي صغيرهما من موجة برد أعلنت عنها الأرصاد الجوية، يقود سيارته تحت الطر فيجد رجلا وطفله يحتميان بالبرد تحت مظلة محل مغلق، وأمامه بطانيات استلمها من الشئون الاجتماعية يبيعها للإنفاق على أسرته، يأخذ منه بطانية ويعطيه نقود المدفأة، وفي البيت يدثر ابنه بالبطانية.
صورة من صور التكافل الاجتماعي في قطاع عزة بانتظار عدل سيأتي مع جودو الذي لم يأتِ بعد!!
في قصة نقطة سوداء: تجري المعلمة على تلاميذها اختبار مشاركة حرة بعرض لوحة عليها بقعة سوداء، وتترك للتلاميذ إسقاط رأيهم عليها، تتباين التأويلات حسب وعي التلاميذ ومرجعياته الأسرية، تجري الاختبار على أمل أن يفيد في تطوير المنهاج، إلا أنها تواجه بردود أفعال ملتبسة وتأويلات سلبية عند ـولياء الأمور وعند إدارة التعليم أيضا ليبقى السؤال: لماذا
وبعد:
فإن القصص تشير إلى فنانة تملك تطويع الحكاية إلى حيث تريد، ولكن الحكاية على أهميتها لا تكفي لتقيم بنية قصصية تحمل المصادقة على رسالتها، باعتبار القارئ شريكا متفاعلا من الخطاب القصصي، كما تجلى في قصة الصفعة الثانية وقصة أقلام المطر وقصة بلا رأفة وقصة الرواية
أما القصص التي استسلمت للحكاية فقط قد شابها إضافات يمكن الاستغناء عنها أو إضافات أثقلت كاهل النص فجاءت على صورة إخبار صحافي في قالب قصصي لأحداث حدثت أو محتملة الحدوث، وإن كان ذلك لا يعيبها كقصة صحافية، واعتقد أن بدايات فلورندا مصلح تنبئ بقاصة واعدة في مجال هذا الفن الشائك والمراوغ والمتطلب أيضاً..
بعد أن أنهى الأستاذ غريب حديثه فتح الباب لمداخلات الجمهور فكانت المداخلة الأولى من المؤرخ الأستاذ سليم المبيض قال فيها: نحن ككتاب وأدباء وباحثين ودارسين، لابد لنا مونة نغترف منها من خلال ما اغترفنا من وسائل، وعلى الكاتب أن يتعمق في جذور ومواريث شعبه، ولابد أن يكون له دراية بتاريخ وجغرافيا واجتماع وطنه، فأرسطو يقول: من لا يعرف تاريخ ثلاث آلاف عام عن بلده فهو جاهل
وأضاف: كي أكون مبدعا مميزا لابد أن نستخدم مواد خام بكر وأتساءل عما إذا سبقني لها أحد أم لا. فإن سبقني أحد هنا عليّ ألا أكتب، لأنه لابد أن تكون الأشياء نادرة ليسعى الإنسان لقراءتها خاصة أننا شعب لا يقرأ!
استدل على ذلك بقوله: كتبت قبل ثلاثة وثلاثين عاما كتاب صدر عن الهيئة المصرية بعنوان غزة وقطاعها، للأسف لم يُقرأ من معظم سكان القطاع، مشيرا إلى أن تسميته بــ(قطاع غزة) هي تسمية سياسية ومصطلح عسكري هو وليد أكتوبر من العام 1949م في اتفاقية رودس، وأكد الأستاذ سليم على أن دراسات متعمقة أثبتت أن ليس لإسرائيل تاريخ
أما الصحفي المشهراوي فبعد أن شكر جماعة الصالون والأستاذ غريب والأستاذة فلورندا قال: سأنحو في حديثي باتجاه آخر: فالإنسان المفكر عبارة عن فكرة وذكرى وعبرة، وهذا ما كان في صالون نون الأدبي الذي لازال حيّا ويعطي، وينثر من دفقاته فنستقي منه نحن ككتاب وصحفيين فشكرا للصالون والقائمات عليه
ثم وجه سؤالا استيضاحيا عن الوسيلة التي من خلالها نجعل كتاباتنا مقروءة
ثم كانت مجموعة من المداخلات دارت في فلك الانتماء للوطن وعما إذا كان من الضروري أن نجسد واقعنا في كل كتاباتنا، كما قال الأستاذ نبيل عابد
وسأل الأستاذ محمد تيم عما يجب عمله لتصل الكاتبة للعالمية، وتساءل عن الصفعة الأولى ثم طلب منها توجيه نصائح للكاتبات الناشئات
الإعلامية حنان أبو دغيم تحدثت عن تجربة قامت بها المدرسة التي تديرها الأستاذة فلورندا في برنامج أمهات قارئات، أيضا تحدثت عن تجربة شجعت بها الأطفال على كتابة القصص
السيد عبد الله زقوت أكد على ضرورة فهم تاريخ وجغرافيا الوطن لدى الكتاب
الأستاذة الشاعرة هدى النواجحة شكرت فلورندا على هذا المسار وكتابتها للقصة القصيرة، فهي مبدعة
ثم قالت: أقدم كل الشكر لفتحية ومي اللتين صنعتا هذا المنبر، فهناك الكثيرين يكتبون لكن كتابتهم لا تصل للناس لعدم وجود منابر ثقافية، فاحتضان الصالون والملتقيات الشبيهة لهؤلاء المبدعين أمر عظيم
المداخلة الأخيرة كانت من الدكتورة مي قدمت بها الشكر والامتنان للحضور الكريم لما كان لحضورهم - في هذه الجلسة بالذات – من معاني الدعم والتأييد لهذا الصالون الذي يصر على الاستمرارية، فحضوركم شرف لنا ودين في أعناقنا
ثم قالت: كما أن افتتاح عامنا الثامن عشر باستضافة كاتبة مبدعة، وأديب وروائي متميز هو مؤشر جيد
بعدها أجملت الكاتبة ردها على استفسارات الجمهور فقالت: في العام 2010م كتبت القصة للمشاركة في المسابقة، لم أتناول بها معاناة الأسير في السجن من عذاب ومعاملة سيئة، إنما تناولت الجانب الإنساني، أردت أن أخاطب العقل الفلسطيني، فناقشت الموروث والعادات البالية التي تفضل الذكر على الأنثى، وعن توجيه الأبناء لتخصص حتى لو كان عكس رغبته، واستشهدت بواقعها قائلة: في العام 1990م كنت في الثانوية العامة حصلت على المرتبة الثانية على القطاع ولم أرغب في دراسة الطب، بل درست اللغة العربية
وعن الوصول للعالمية قالت: أنا لا أسعى لذلك، فأنا أعمل بصمت وأرى أن من واجبي تغيير الثقافة في م قرأت مجتمعي
وعن مشروع أمهات قارئات قالت نجتمع كل شهر مرة في مكتبة الهلال تكون الأم قرأت كتاب تقوم بتلخيصه للأخريات اللاتي يقمن بمناقشتها، بذا نناقش عشرة كتب في كل لقاء، وذلك خارج وقت الدوام المدرسي
لابد أن نبحث عن الطاقة الإبداعية الإيجابية
هنا رفعت الأستاذة فتحية الجلسة على وعد بلقاءات أدبية متكررة
**
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق