قراءة نقدية في رواية "عبدو هيبا" للكاتب محمد نصار
د. عبد الرحيم حمدان
صدر عن مكتبة منصور للطباعة والنشر والتوزيع بغزة، آخر الأعمال الروائية للكاتب الروائي محمد نصار بعنوان:" عبدو هيبا" وذلك في طبعة أنيقة بلغت (128) صفحة من الحجم المتوسط، الطبعة الأولى لسنة 2019 ميلادية، وهي رواية تاريخية واقعية في آن معاً، تجمع أحداثها التاريخ الفلسطيني القديم والتاريخ المعاصر، وتدور أحداثها في إحدى البلدات الفلسطينية الأثرية وهي بلدة "بيت حانون".
والشخصية المركزية التي تحمل الرواية اسمها هي شخصية تاريخية لملك من ملوك القدس في فلسطين، كما ورد في إحدى الرسائل التي بعث بها هذا الملك الى ملك مصر آنذاك وهو "أخناتون" أن اسمه يعني عبد (خادم) الإلهة (هيبا )، وقد عاش في بداية القرن الرابع عشر قبل الميلاد وفيه توفي.
ترك هذا الملك عدداً من الرسائل تقدر بأربع رسائل بعث بها إلى فرعون ملك مصر آنذاك، الذي امتدت مملكته حتى حدود فلسطين، يحذره فيها من فقدانه السيطرة على أرض مملكته حول أور سالم، وبالتالي سيطرة العبيرو، وهم جماعات خارجة عن النظام السياسي والاجتماعي وترتبط بأعمال السرقة، وقطع الطرق، والنهب، والفوضى.
قضى الملك "عبدو هيبا" فترة حكمه يحارب العبيرو، ويساند إخوانه الملوك المجاورين لمملكته في محاربه هؤلاء المفسدين في الأرض، وكان دائما ما يطلب العون والحماية والمساندة والدعم والمساعدة من ملك مصر مقابل أن يبقى في مكان مملكته، ولا يغادرها . وتقول المصادر التاريخية إنه لا يُعرف ماذا حصل بالنهاية لهذا الملك الذي يُدعى عبدو هيبا .
إن عنوان الرواية؛ بوصفه عتبة نصية مهمة تثير لدى القارئ الدهشة والإثارة؛ ذلك أنه لا يملك معلومات تاريخية كافية تحدد له ملامح هذه الشخصية ومعالمها؛ لذا تجده يسعى جاهداً إلى قراءة الرواية من بدايتها إلى نهايتها؛ ليكوِّن ملامح تلك الشخصية وأبعادها. فهي متشظية في الرواية بأسرها.
إن الفترة الزمنية التي جرى نصيب كبير من أحداثها تشكل جزءاً من تاريخنا الفلسطيني الذي ظل ردحاً من الزمن يكاد يكون مجهولاً منسياً لم يتم تناوله من الأدباء ولا الكتاب في أعمالهم الأدبية؛ لذا فإن الكاتب بمعالجته لهذه الفترة يكون قد أزاح الستار عنها، وسلط عليها الضوء؛ فغدت فترة تاريخية خصبة ومضيئة في تاريخنا الفلسطيني السحيق.
قسّم الروائي روايته أربعاً وعشرين قسماً، يحمل كل قسم رقماً معيناً يعبر عن فكرة ورؤية جزئية خاصة، ولكنها ترتبط بما قبلها وما بعدها برباط فكري وشعوري متين، وبذلك تتوافر الوحدة الموضوعية والفكرية والفنية لكل أقسام الرواية، والتي تساهم في تحقيق التماسك النصي للرواية وتلاحمها.
لقد حاول الروائي ان يوظف آلية فنية في روايته، حيث قسم أحداثها قسمين: أحدهما يدور حول أحداث جرت في التاريخ القديم زمن الملك عبدو هيبا، والملك حانون الأول، والآخر جرت أحداثه في التاريخ الفلسطيني المعاصر، زمن الاجتياحات الصهيونية لبلدة بيت حانون وسائر مدن غزة، وقد رصد فيه ممارسات هذا العدو العدوانية تُجاه الإنسان والشجر والحجر من تدمير وقتل وأسر وترويع للآمنين من الشيوخ والأطفال والنساء.
ويجد القارئ المُستقبِل أن هناك خيطاً رفيعاً يربط بين هذه الأحداث، وهو ما يتغيا الأديب أن يتوصل إليه القارئ بنفسه. انطلاقا من نظرية الاستقبال والتلقي، وهذا الخيط الرفيع هو المغزى الكامن وراء فكرة الرواية وثيمتها ومضمونها. إنه يريد أن يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة .!!! يريد الكاتب أن يسقط أحداث هذا الزمان على أحداث الماضي، فإذا المقاربات والتشابهات لا تكاد تكون بعيدة، وإنما هي هي:
فالمكان؛ بوصفه فضاء سردياً ذا قيمة بنائية عالية، هو بلدة بيت حانون التي عثر في مسجدها الأثري على لفائف ورقية وألواح أثرية تحوي سيرة المك عبدو هيبا ورسائله، وعلاقته بهذه البلدة. وأن هذه البلدة تعرضت لهجمات العبيرو واعتداءاتهم، وأن أهلها كانوا يقاومونهم ويدافعون عن حياضهم، وأن الفلسطينيين هم سكان هذه البلاد الأصليين من قديم الزمان، وقد تبوأ موقع البلدة مكاناً استراتيجياً مرموقاً، إذ مثل حلقة وصل مهمة؛ ومحطة مركزية للربط بين الطرق التي تسلكها القوافل التجارية القادمة من أور سالم إلى مصر الفرعونية وبالعكس.
لقد عانى هؤلاء الأجداد من خطر العبيرو الذين يُقصد بهم الصهاينة الذين كانوا يهاجمون السكان، ويخربون ممتلكاتهم، ويسرقون الأرض، ويعتدون على أصحابها الأصليين . لقد قاوم ملوك هذه الأرض، ومعهم أهلها وقاطنوها هؤلاء الغزاة، وبقوا فيها مغروسين، لم يرحلوا عنها. .يقول عبدو هيبا في إحدى رسائله إلى ملك مصر:
... "وطلب منى أن أبقى، ولا أترك المكان. لهذا أنا محتاج؛ لتزودوني بالجنود في هذه السنة، ولأستقبل مندوب الملك أيضاً "
ويبرز هذا الخيط الرفيع بين الفترة الزمنية الماضية والمعاصرة واضحاً جلياً عندما يصور الكاتب ظاهرة استغلال العدو لبعض النفوس الضعيفة، فيأخذ في استخلاص العملاء والعيون والجواسيس؛ لينفذ مخططاته ويتعرف إلى اسرارهم، مستغلاً عنصر المرأة ، وما تمتلكه من عوامل الجنس والإثارة الجسدية في إسقاط الآخرين.
وقد وظف الروائي عدداً من تقنيات السرد الروائي الحديثة في البناء الفني لروايته مثل: الحوار الدرامي بنوعيه: الخارجي والداخلي، وتصوير الجزئيات الدقيقة للشخصية، وتقنية الارتداد الفني، والاستباق الزمني، وتقنية الوصف والسرد، وتقنية التناص التراثي؛ الأمر الذي جعل الرواية تفيد من التحولات الروائية التي طرأت على الرواية الفلسطينية الحديثة في الآونة الأخيرة، فضلاً عن لغتها الموحية التي تتكئ على انتقاء الألفاظ واختيارها الدقيق للمغزى الذي يريد الكاتب إيصاله للمتلقي.
اشتملت لغة الرواية على نمطين مختلفين من اللغة أحدهما: اللغة التراثية في مفرداتها ودوالها وتراكيبها وصورها البلاغية، ومن الحقول الدلالية التي ترددت في الرواية ": الموكب، باحة القصر، رئيس الحرس، الحامية، الألواح، لفائف، طلائع الفرسان، العبيرو، الرايات المرفوعة صوت الطبول. صهيل الخيل، ضجيج العربات.
أجري الكاتب حواراً درامياً بين شخصيتين في الرواية هما: رئيس القافلة عليان مسعود ، ورئيس حامية القصر، يقول رئيس القافلة:
- أشكركم ياعزيزي، على نجدتنا، لقد كانت أعدادهم (العيبرو) كثيرة هذه المرة، تجاوزوا الخمسين رجلاً، لكن تدخل حاميتكم في اللحظة المناسبة أنقذنا، من مصير قاتم.. لقد أوشكوا أن يوقعوا بنا، ولولا سعيكم الجاد، لما وجدتني هنا الآن.
- هؤلاء الرعاع صاروا خطرا على سير الحياة في بلادنا.(الرواية، ص31، 32 ).
و ومن الحقول الدلالية التي توفرت في لغة الرواية المعاصرة والمستوحاة من واقع الشعب الفلسطيني المعيش: طلقات، دوي انفجارات، اجتياحات، هدير الدبابات، المسلحون، المقاومون، هول الدمار، المجرمون، صولات وجولات، مداهمة البيوت".
يقول الراوي في موضع آخر مصوراً ممارسات القوات الصهيونية بحق أهالي البلدة في إحدى الاجتياحات المدمرة:
..."فمع بزوغ النهار، انتهى كل شيء.. شهيد وثلاث إصابات، إضافة لتجريف عدد من الدونمات المزروعة بأشجار البرتقال، وعدد آخر من آبار المياه القريبة من المكان"(الرواية ص 34).
وجملة القول: إن هذه الرواية بتوظيفها أحداث التاريخ ووقائعه ترمي إلى تأكيد حقيقة أن فلسطين التراثية هي أرض الفلسطينيين، لا ينازعهم أحد في تملكها، وأن الرواية تدق جدران الخزان بقوة عسى أن يأخذ الشعب العربي الفلسطيني حذره، ولا يلدغ من الجحر الواحد مرتين من خلال العبيرو!! وكشفت الرواية أن هؤلاء العبيرو وأحفادهم الصهاينة بشر يتوارثون المكر والخديعة جيلا بعد جيل؟ وتسري الجريمة في عروقهم كما تسري الحياة؟!
إن الرواية لم تقل كل ذلك بطريقة مباشرة؛ وإنما عبرت عن ذلك بأسلوب فني موحٍ، مستخدمة التقنيات السردية الحديثة التي جاءت ثمرة تطور الرواية على أيدي جيل من كتاب الرواية الفلسطينية المبدعين من أمثال: الروائي غريب عسقلاني، وعبد الله تايه، محمد نصار كاتب هذه الرواية وغيرهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق