الخميس، 13 يونيو 2019

قصة قصيرة بعنوان فقاعات صابون: الكاتبة المصرية فاتن عبد المنعم.



                


فقاعات صابون                                                                  فاتن فاروق عبد المنعم - مصر 

لحظات وئيدة ، تمرُّ وكأنني أحمل ثقلها على كاهلي ، أقف مذعنًا أمام الموت الذي اختطفها، تلك المتوجة على مملكة قلبي ، يلقنها الشيخ حُجتها ، لتجيب الملكين ، بلسان طلقٍ فصيح ،  ناكرا ونكيرَا ، بينما أجمع شتاتى المبعثر ، أشعر بها تربت على كتفي ، ثم تضمُّني  بذراعيها ، تقول في حنو بالغ : حبيب أمك ، ياقلب أمك  تواسيني لفقدها ، الذي ألهب ضلوعي .
 نعم  الموت هو الحقيقة المؤكدة ، التي ينبغي أن يوقنها جميع البشر ،  لكنَّ العيش في أتون التجربة ، يكون حارقًا إلى حد التفحم، مازلت غير مصدق ، أنني أضعها بيدىَّ هاتين  في القبر ، أسمح لهم أن يهيلوا عليها التراب ،  يغلقون عليها  المقبرة إلى الأبد، يتداعى كياني منهارًا ، تنهمر الدموع سيلًا متدافعًا ،  ، يناديني صوتها من عمق سحيق ، في مطلع صبايا  :
عايزة ابني يكون  رجلًا.
 أفيقُ ، أستجمع رباطة جأشي ، ها قد انتهت مراسم الدفن ، وانصرف النَّاسُ ،  بقيت بجانب قبرها ،  أقرأ سوراً بعينها ، من كتيِّبٍ طبعتُهُ ، صدقة على روحها ، كل واحدة من أخواتي الأربع ، أمسكت بنسخة منه ، كنَّ في سباقٍ معي ،  نمطرها بِبَركةِ تلك الآيات ، والأدعية ، مرت ساعتان أنهكنا التعب ،  هممنا بالإنصراف ، فسمعت  صوتًا يهزُّ كياني :
  ماتت التي كنا نكرمك من أجلها ، فاجتهد أنت بعملك.
 ما عادت تحملني قدماى ،  خارت قواى مرة أخرى ، تحاملت مستندًا على شقيقتي الوسطى ،  لأتَّخذَ  مكانا بينهن ،  اعترتني نوبة من البكاء والنَّشيج ، وكأنها شرارة البدء ، فقد استثارت أخواتي ،فعدن للبكاء .
الآن سنتركها وحيدة ونمضي دونها ، لنبدأ دورة من اللهاث في الدنيا من جديد
  يا للقدر ، لكأنَّه كان يهيِّئَني ، لأدفنها بيدىَّ ، عندما عدت من سفري إلى الخارج كانت في فترة نقاهة ، تتعاطى بعض الأدوية ، استفسرت  منها عما جرى لها ،  لقد كانت أعراضًا انتابتها ، فذهبت إلى المبرة الخيرية ، لتكشف بتذكرة مخفضةً ، قيمتها خمسة جنيهات ، مع قلقي الشديد ، وأسئلتي التي لا تتوقف ، أكدت لي أنها تعافت ، وصحتها عادت بالعلاج ، الذي وصفه لها الطبيب بالمبرة ، لم أحس براحة ،  وأنا الآن قيمة وقامة ، في البلد ،  وأمي تعالج في  المبرة الخيربة  ، ليس إلا مستشفى استثماري ، باهظ التكاليف جدا ، فالسعر قرين الجودة ، كنت أسير بجانبها مشدود الظهر ، مرفوع الهامة ،  فلا أقل من أن يقال : يعالج أمَّه بأرقى وأغلى مستشفيات مصر ، كان المبلغ المدفوع تحت الحساب كبيرًا جدًّا ، لا بأس  المهم أن تشعر أن سنوات الشقاء ، قد ولَّت ، والآن هذا وقت السعد والنعيم ،  لا بد أن تشعر بالراحة والاهتمام ، في نهاية عمرها ،  إنها أمي.
الخدمة بالمستشفى فندقية بامتياز ، مبهرة مطمئنة  ، يغلب عليها بريق النظافة والاهتمام البالغ ، والعلاج يسير بكل اهتمام ، لم تكن تضايقني ، بكلماتها وعبوس وجهها ، حين  تقول:   والله يا بني لا داعي لكل هذا ، فقد تعافيت والحمد لله . أقبل رأسها ويديها ، اطمئنها : المهم سلامتك يا أمي .
كنت وحيدها ، لثمانية أعوام ، قبل أن تنجب أخواتي البنا ت الأربعة ،توأم، توفي والدي وعمر أكبرهن ثلاث  سنوات.
  يزداد تبرم أمي ،  لبقائها بالمستشفى ، فأمازحها : لا تقلقي ، صدقيني معك حق ، ولكننا نريد أن نطمئن عليك فقط  .
 أيام قلائل وصارحني الطبيب ، أنه لا بديل عن العملية ، واستئصال الورم ، لم يكن أمامي إلا التسليم ، واغتنام هذه الفرصة الأخيرة ، لم تكد تمضي ساعات ، حتى ارتفعت حرارتها ، ولم تعد من بعدها لمعدلها الطبيعي ، ودخلت في غيبوبة ،  مؤشرٌ سيء ، هكذا صارحني الطبيب ،  وبمرور الوقت ، تدهورت حالتها ، رغم بقائها في العناية المركزة ، لاحظ الأطباء توتري الشديد ، وقلقي الزائد ، وإلحاحي عليهم ، كيف يحدث هذا ، قالوا :
 إنه كبر السن ، مع الضغط  ، والارتفاع القاتل للسكر في الدم .
كيف ، وأمي لم تشتكِ يومًا من الضغط أو السكر، قال الطبيب لا عليك ،  فنحن المصريين لا نفحص أنفسنا ، إلا بعد فوات الأوان .
أكاد لا أصدقه ، ربما يكون لكلامه بعض الصحة ،  فأمي بطبيعتها لا تذهب إلى طبيب ، أو تتعاطى أدوية  إلا للشديد القوي ، كما تقول دائمًا.
غابت عن الوعي تمامًا ، اللهم إلا فواقًا  لدقائق معدودات،  لتعود جسدًا نحيلًا ،  متصلًا بجسمها أكثر من جهاز ، لا أبالي بما تستنزفه المستشفى كل يوم من أموال ، المهم أن تتعافى.
ينتابني  وإخوتي همٌّ ثقيل ، أجمعن في لهفة شديدة ، على ضرورة نقلها لمستشفى آخر ،  ثم هدأت ثائرتهن ، وقد اقتنعن بأن هذه أرقى وأفضل المستشفيات في مصر .
لم يفارقنا الأمل في نجاتها من هذه الغيبوبة ، شهرًا ونصفَ الشهر ،  حتى خرجنا بجثتها، شُخِّصَت الوفاة بهبوط حاد بالدورة الدموية، إنها الصاعقة التي سقطت فوق رؤوسنا جميعًا .
تحرك الموكب الحزين ، إلى المقابر ، من غرفتها التي ظلت قابعة فيها ، منذ رحيل أبي ، منكبَّةً على ماكينة الخياطة ، تتحصل منها على القروش الزهيدة ، التي بها ربتنا .
 في نفس اليوم أعلنت وفاة السندريلا ، بقية موائد اللئام، صنيعة وإنتاج موافي غير الشريف ، كان خالي رحمه الله ، كلما رآه يصرخ : غيِّرُوا هذه القناة ، لا أطيق النظر إليه.
صنعة اللاشريف ( سعاد حسني ) ، تلك التي رافقتني في مطلع شبابي بالوهم والتخيل ، فتعوِّضني عن الرفيقة، كنت مدمنها كلها : شكلها ، تقاسيمها وصوتها ، وخفة روحها ، وقفشاتها وحركاتها ، وكل مايصدر منها ، نعم مثلها كثيرات ، ولكنها كانت الأثيرة ، ليس لدىَّ
فحسب ، وإنما لدى كثيرين ، أحدهم قالت له زوجته بغيظ : إنَّ نصفها صناعي ، قال : لو صنعوا مثلها دمية لاشتريتها بأعلى سعر .
وبينما النقاش محتدم حول وفاتها ، وترددت الأسباب والحيثيات ، التي تؤكد أنها قتلت ولم تنتحر ، جاءني طبيب شاب ، فصل لتوه من نفس المستشفى ، التي كانت بها أمي ، ليؤكد لي أنها ماتت نتيجة لخطأ الطبيب  وحدد بأدلة وتقريرٍ طبيٍّ محايد ، سلَّمهُ إلىَّ ، قلت سأقاضي هذه المستشفى ، قال :
حقك والأدلة معك ، ولكني لا أنصحك بذلك ، سيحتاج الأمر إلى تشريح الجثة ، ولن تستطيع مواجهة الحيتان، ملاك المستشفى فلديهم ما يستطيعون به شراء كل شيء، ، ثم لا داعي لنبش قبرها ، وما يعقبه من تداعيات نفسية عليكم .
لماذا إذاً أعطيتني الأدلة ؟
 قال : لأريح ضميري .
 جريت كالمجنون ، اقتحمت بسيارتي بوابة المستشفى ، وهرولت مقتحما مكتب  المدير ، أخذت أجره من رابطة عنقه وأنا أصيح : يا بهائم يا أولاد الكـ .. ، لا أذكر بعدها شيئًا ، ألا أن اثنين من الثيران البشرية ، بقامات لم أر مثلها في حياتي ، كل منهما ممسكٌ بساق وذراع ، وأنا في يديهما كالهرِّ المذعور ،  ثم ألقياني خارج أسوار المستشفى ، وبعد جهدٍ دفعا ألى بسيارتي  .
 شعور بالقهر لم أمر به في حياتي !  .
أمي كانت أقوى مني ، ومن أخواتي ، استطاعت اجتياز الصعاب بنا ، وهي التي وصلت بتعليمها إلى الابتدائية ، وبمعاش والدي الزهيد وماكينة خياطة ، عملت عليها ، ولم تأنف من إصلاح ورتق الملابس القديمة ، وتأييف التنانير ، وصنع الشراشف والمفارش.
عندما رسبت في الثانوية العامة ، بكت أمامي كما لم تبك من قبل ، وقالت بأسى : أنت كسرت ظهري ، ما فائدة وجودي في الدنيا إن رسب ابني؟!
 لم أحزن لرسوبي قدر حزني لألمها وحزنها ، الذي تسببت فيه ، وشعرت أمامها بالخيبة والضعة ، أمي التي لا تستريح ، من ماكينة الخياطة ، إلا لتستأنف أعمال البيت من تنظيف وطهي للطعام ، من يومها لم يعد أمامي من بديل إلا التفوق والنجاح .
كان أول ما قلته لزوجتي بعد العقد مباشرة :
 قنطرة المرور لقلبي هي أمي ، وهي على حق دائما طلباتها أوامر.
نظرت إلي متجهمة ، كانت تتوقع أن أسمعها كلمات الشوق والحب ، وأبدي سعادتي باقتراني بها ، بينما كنت جادا في إشارتي إلى أمي ، وهي التي كانت مهتمة حد التفاني في إسعادنا .

مازال النقاش محتدما حول وفاة السندريلا ، كنت في مطلع صبايا أحرص على رؤية أفلامها ، حتى بلغتُ مرحلة التحولات النفسية والجسدية ،  وصرت يصيبني مايصيب الرجال ،  فأصبح كالمحموم ،  الذي لا يبرد داخله ، حتى أختلي بنفسي لأعتصر مابين فخذىَّ ، وأتخفف من بعض أحمالي .
  ظلت تمثل لي رمز الأنوثة والجمال ، حتى بلغتُ الأربعين ، وتغيرت نظرتي لجملة الحياة وتفاصيلها ، واكتملت التجربة ، وعرفت أن الجميلة إن كانت من الفضليات عانت في مواجهة الذئاب بمفردها ، فهل في رأسي سيناريوهات افتراضية لحياة أمي جميلة الجميلات ، التي اجتهدت لتواري الجمال ، ولا بد أنها ارتفعت فوق كل الإغراءات ، لتبقى لنا فقط  ،يحجبها عن التفكير بنا سويعاتها القليلة ، التي تقتنصها ، لتريح مكونها الذي يئن ألمًا ، من كثرة الضغوط التي تطاردها ،  فأشفقت عليها واستشعرت جهادها الخفي ، الذي لم ولن يذكره أحد.
 أمسح دموعي التي بللت وجهي ، عندما يهل في مخيلتي وجهها ، عندما يكون طعام الغذاء سمك مقلي ، لعلمها بشغفي به فتتركه قائلة :
ماعاد لي ثقل عليه.
 حيلة منها لتتركه لي ، وفي المرات القليلة التي يكون فيها على المائدة اللحم أو الدجاج ، كانت تظل تلف وتدور حولنا حتى نأكل ونشبع ،ثم تأكل ما يتبقى منا، ماتت أمي ففقدنا ما لا يعوض بكنوز الدنيا.
مازال جملة من الكتاب والفنانين يناقشون قضية مقتل السندريلا  ، كما أنني مشغول بالكيفية التي تمكنني من مقاضاة  المستشفى ،  وإن كان البديل  البلطجة ، فإنني  لست على استعداد للمواجهة ، فجسمي كما كانت تصفه أمي ، سفيف، قصير ونحيل ، فماذا أفعل بهذا المكون الرقيق ، فلو أني ذهبت إلى مدير المستشفى وقفزت في الهواء كالوطواط ،  ثم سقطت فوقه بكل ثقلي ، ما أثرت فيه ، زيادة على  حراسه الشخصيين ،  الواحد منهم قد يحملني على ذراعه كطفل ولا يبالي.
الاستسلام يقتلني، كما يقتل محبي السندريلا  ، التي لاقت من يهتم بها وبقضيتها ، دبج بعض الكتاب المقالات ، وقرأت قصيدة  لشاعر كتبها لها ، ثم شيئا فشيئا فترالجميع ،  وانتهى النقاش .
قاتلها يعلم كما يعلم قاتل أمي ، أننا نسخن بسرعة ونبرد بسرعة.
ليس أمامي إلا اتباع نظام غذائي معين ، به يزداد وزني على عكس الأغلبية ويرافق هذا المداومة على تمرينات رياضية لتنتفخ عضلاتي فإذا قفزت في الهواء وسقطت على مدير المستشفى يصبح لي ثقل يؤلمه.
فشل خيار اللجوء إلى القانون ففي بلادنا القانون تزيحه راقصة بمؤخرتها وآخرون رزقوا سعة من المال يزيحونه بأموالهم ، كأنه كرة ، يركلونها بأقدامهم ، كيفما ووقتما شاءوا،  ولكن حتى نفخ العضلات ، ولى زمانه بعد أن غلب بياض شعري على سواده، لكل شيء وقته المناسب.
في غمرة استغراقي في داخلي المهزوم ، أطالع من الشرفة ، طفلة في السادسة من عمرها تمسك بلعبة فقاعات الصابون ، تخرجها متكتلة ، ويكفي أن تنفخ فيها بفمها الرقيق لتتفرق في فضائها المحدود حتى تتلاشى سريعا دون مجهود يذكر، تسعد هي بهزيمة فقاعات الصابون ، بينما أشقى أنا ومحبوا السندريلا بهزيمتنا.

قصة من مجموعة فقاعات صابون القصصية الصادرة مؤخرا. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جمالية التمرد في قصيدة" أغنية الردة" للشاعر أنور الخطيب: قراءة تحليلية

جمالية التمرد في قصيدة" أغنية الردة" للشاعر أنور الخطيب قراءة تحليلية بقلم/ جواد العقاد – فلسطين المحتلة أولًا- النص:   مل...