طلال بدوان - كوكبُ الأرض
مُستقبلُ القصيدة العربيَّة، عنوان يحملُ بينَ طيَّاتهِ الكثير من التَّساؤلات الكُبرى، أكثر من كونهِ يبحثُ عن الإجابات الصُّغرى هُنا وهناك، فالأجدى والأولى في اعتقادي أن تَكونَ عمليَّةُ طرحِ الأسئلةِ أهمَّ من الإجابةِ عليها، الأسئلة الجديدة، تصنعُ إجابات جديدة لأسئلةٍ جديدة أخرى أعمق وأعمق وهكذا، وعلى قاعدةِ التَّشكيكِ في كلِّ شيء لا التَّسليم الأسفنجي المُستسلم والمُضَلَّلِ برأي الحشودِ من عامَّة الناس لا مُثقفيها، وعلى قاعدةِ أنَّ الشَّك المُحفِّزِ على البحثِ والاستمرارِ بالمحاولة والتَّجربة باحتماليات الصَواب أو الخطأ، الشَّك الذي هو مرادفٌ للسؤالِ والإيمان. الأسئلة لا تعني إنكار ما نسأل عنه إنما تعني توسيع حدودِ المعرفة.
من بصيرتي المُتواضعة، ورؤيتي وقراءتي لأفكارِ المستقبل بعين الحاضرِ، قبل شهر تقريباً من الآن وخلال أحد الحوارات التي تسبق لقاءنا الأسبوعي بدقائق مع الشَّاعر ياسر الوقاد قمتُ بوشوشتهِ بنبوءتي المبنيَّة على قراءةِ هذا الواقع الذي نعيشهُ حاليًا مع القصيدة العربية خاصَّة والشِّعر العربي عامة، حيث كان من ضمن الحوار، طرحي لنبوءة موت الشِّعر، وأننا ومنذ وقتٍ ليس ببعيد نعيش على أعتاب نهاية وموت الشِّعر وما يُسمى بالقصيدة العربية في حياة وروحِ وعقلِ الأجيال القادمة، وأن كلَّ ما يُكتبُ الآن هو مُحاولة لإنعاش مريض ميِّت سريريًا، فأغلب مُتذوقي الشَّعر، هم شُعراء، شُعراء يستمعونَ لشعراء، ويُجاملونَ بعضهم البعض خشيةَ أن يغضبَ أحدهم من الآخر ويخسر واحدًا من مُستمعي الشِّعر المُتصنِّعين، لا تجد هناك مُتذوق للشعر بمعناه الحقيقي يقرأ أو يستمع للشعر، دونَ أن يكونَ شاعراً. من خلالَ لقاءاتنا هنا نلاحظ ذلك، وأريدُ أن أسألَ سُؤالاً تفاعليا للحضور الآن: من منكم مُتذوق للشعر فقط ولم يجرب الكتابة، ولا ينوي الكتابة، كل من يأتي لفعاليات الشعر هم شُعراء، لم تعُد للشعر شعبية إلا مُكمّل وديكورٍ على هامشِ الاحتفالات بأنواعها، كأحد القوالب الجاهزة، كالنشيد الوطني الصَّباحي، والزِّي المدرسي المُوحَّد، وقوالب الكعك المُتشابهة.
عندَ مقارنة شعراء الأمس بشعراء اليوم، بالتَّأكيد سنُلاحظ تغيُّرا كبيرا في التأثير والحضور والاهتمام من الناس والمؤسسات ومراكز السَّلطة الحاكمة في الدول.
الشِّعر العربي يمر بمرحلة احتضار قد تستمر لعقد قادم من الزّمن، قبلَ أن يموتَ دونَ أن يشعُرَ بفقدانهِ أحد، كالكثيرِ من الأشياءِ التي تذكَّرنا مُؤخَّراً انقراضها، كشريط المسجل القديم، وصندوق البريد، فنحنُ الآن في عصر مختلف، لم يعد الشعر فيه هو الوسيلة الوحيدة للتعبير والتأثير بعد انتشار وسائل كثيرة تعتمد على التكنولوجيا، ومنها المسلسلات والبرامج التلفزيوتية، والأغاني، والفيديوهات، لقد بات الشِّعر انتاجاً لا إبداعًا، أصبح يكرر سابقهُ، ويكرر نفسه، ويجتر الماضي بحجة الحفاظ على الموروث، الموروث الذي صنعهُ أجدادنا لهم كبصمة، نريد نحن أن ننسخ بصمتهم في مشوارنا الأدبي، دونَ أي إضافة تكسر المُتعارف عليه، وتخرِجنا عن صندوقِ القوالبِ الجاهزة. الهوية ليست تراثاً جاهزاً نرثهُ، كبيوتنا وحقولنا، الهوية ليست جاهزة أبداً، الانسانُ يخلق هويَّته فيما يخلق فكرهُ وعملهُ، الهوية ابتكار متواصل إلى مالا نهاية.
قلما أستمعُ لنصوص شعرية تحملُ أفكارا جديدة، تُغير طريقة التَفكير والتَّخيُّل لدي، لتُعمِلَ العقلَ، لتتغيَّر حياتي للأفضل، بل نصوصاً تُدغدغ العواطف والقلوب فقط، وانفعالات النَّفس المُؤقتة، فاعتِمادنا المُطلق على المشاعر لتوليد الفكرةَ، يُنتجُ أفكاراً مغلوطة لا تصلح كأداة للتغيير، بينما العقلُ يصنع الفكرة ليكوِّنَ مشاعر مدروسة سويَّة مُنتجة، المشاعر الانفعاليَّة التي تصنعُ القصيدة غالباً يُمكنها أن تكذبَ وتُضلل وتنفعل وتغضب دونَ سبب منطقي وتُجمل القبيح وتُقبح الجميل، فالشاعرُ يمكنهُ أن يكتبَ قصيدة مدح لشخص ما، يُمكنهُ اقناعنا بالقصيدة العاطفية بنفس درجة الذم، لنفس الشَّخص، الشِّعرُ خداعٌ لو لم يُعمل العقل أيضاً، الأولى أن نُفكر لِنَشعرَ، لا أن نَشعُر لِنفكِّر، لا أعني بنبوءتي عن موت الشِّعر أنني أريده أن يموتَ فعلاً. لهذ سأقدمُ بعض التحليلات لتفسير هذا الموت المستقبلي، وكيفية الاستيقاظِ من هذا الكابوس.
هناكَ عاملان إن لم ننتبه لهما سيقصران عمر الشعر في السنوات القادمة، أولا: مُعدَّل القُرَّاء في المُجتمع العربي، وثانياً: وجود شاعر مُبدع لا مُنتج، العاملان في اعتقادي يُكمل بعضهما بعضًا ولا يُمكن لأي واحد منهما إطالةَ عمر القصيدة لوحده، قد تجد شاعراً مُفكرا مُبدعاً يطرحُ تصورات عميقة وأفكار جديدة رمزية وتصوُّراتٍ مُلهمةٍ، لا يجد من يفهم رسالتهُ، لأن المجتمع العربي للأسف لا يقرأ، لا أقصد قراءة كتاب أو كتابين، أو حفظ 100 قصيدة في الشِّعر العربي القديم، أو التعليم الأكاديمي، أفصد القراءة كعادة وأسلوب حياة، فكلما زادت نسبة القراء الحقيقيين زاد مقدار فهمهم للنصوص التي تطرح فكرا عميقًا، وزادت من تحدي الشُّعراء لأنفسهم في أن يُقدِّموا ما يليق بالقارئ، فتذوق الشعر أو أي عمل يعتمد على ثقافة المُتلقي والصَّانِع، أقتبسُ هنا مقولةً لأدونيس: أن يكونَ الشَّاعر جماهيرياً هذه تُهمة، الشاعر الحقيقي يستحيل أن يكونَ جماهيرياً، لأن الجمهور العربي لا يقرأ.، لهذا قد نجدُ اليومَ أن مُعظم كتابات الشُّعراء الجماهيريين سطحيَّة مُتشابهة، وعلى النَّقيض تمامً الشُّعراء الحقيقيون لا يظهرونَ إلا بينَ النُّخب وكُتب الدراسات والأبحاث، وفي الجانب الآخر، والاتهامُ الثاني هو ميل الكثير من الشعراء لكتابة ما يرغبه الجمهور، الجمهور الذي لا يقرأ، لأن مقياس جودة ما يكتُب هو مقدرا شدَّة التصفيق، كيف لهم أن ينساقوا لمن لا يستطيع ولا يصل لدرجة يتذوق فيها طعم الشعر الحقيقي الذي يحملُ فكراً تنويريا حقيقياً، ثوريا في المعنى والطرح والفكرة والمشاعر والأسلوب والقالب، المجتمع الذي يقرأ، يكونُ لشعرائه الحقيقيين دورا مُؤثراً، وهذا ما لا يريدهُ صاحب النظام الأيدلوجي أو الدكتاتوري، وأقتبسُ هنا قولاً لهتلر " إنَّ أفضَلَ ثروةٍ لدى الحكومات، أن الشُّعوبَ لا تُفكِّر"
حتى قصيدة النثر أو الشعر المنثور بمفهوم أدق، ستغدو من الماضي، وتنتهي هي والقصيدة التَّقليدية كالديناصورات، ولن تبقى حتى عظامها، لأنها تُعاني من نفس المشكلات، باستثناء بعض الكتابات هنا وهناك، الشَّاعر الحقيقي يعيش غربة حقيقية في عالمٍ لا يفهمهُ، في عالم لا يقرأ،
إذن هناك عاملان شكَّلا غربة الشعر الحقيقي المُؤثر الذي يُؤدي لزيادة الإنتاج والوعي والثقافة، الذي لا يضلل ولا يخدع، شعر يطرح الأسئلة أكثر من الإجابات، شعر ينمي التَّخيل، شعر لا يُنافق أو يُمثل أو ينصاع للضغط المجتمعي، والثقافة السطحية السَّائدة للأمور، شعر لا يُمثل دور الضَّحية أو دورَ متسولٍ يحتاجُ لدعمِ وزير الثقافة أو وزير التَّموين، شعر لا يخضع للتكتلات والأيدلوجيات، شعر ليس وظيفياً لصالح فكر مُعين ويخدم مصالح معينة، شعر لا يتسول التصفيق، والتهليل، والمدح والثناء،
لابُدَّ من تهيئة المُجتمع ليُحب القراءة، مع حليبِ الرِّضاعة، وسنرتقي بدور الشعر، لأن المشكلة الأكبر أيضاً ليست في الشِّعر نفسه، وربما الشعر اليوم في تطور أكبر في كتاباتِ بعض الشُّعراء مما كان عليه في العصور الأولى لِنشأتهِ ، بتطور مكونات هذا العصر ومشكلاته، ولكن المشكلة الأكبر أيضاً هي مجتمعيَّة، مجتمع يميل غالباً للراحة والسطحية ولا يُريدُ أن يشاركَ الشَّاعر في النَّص بإعمالِ عقلهِ، ويتهم أصحاب العقول والأفكار بالجنون، وأنهم غريبو أطوار، القابض على ثقافته اليوم كالقابض على الجمرة، لقد شُوه المثقف في الإعلام والمسرح والفن السَّابع، لأن من يتحكمون فيه هم من غير المثقفين من أصحاب رؤوس الأموال ورسائل التَّجهيل، يريدون للمثقف أن يكتبَ ما يفهموه ولا يريدونَ أن يُمارسوا القراءة ليفهموا ما يُكتب، لهذا تدنى مستوى الأدب والشعر خصوصًا، لأن معظم الشعراء انساقوا وراء ما يطلبه الشارع ظنا منهم أن الشاعر جاءَ ليعالج قضايا الَّشارع بطريقة الشَّوارع، ليذوب في الآخر والمجموع، ناسياً بصمتهُ وحضورهُ الشَّخصي، لو كل شاعر كتب ما يريده الناس لاكتفينا بشاعر واحد. ولكن لا بد للشاعر أن يكتبَ تجربتهُ هو، ولو كل شاعر كتب تجربته الخاصة بدون تأثر وقلق وخوف من رأي الآخرين، سيخرج الشعر من دائرة التقليد، من حالة جمعية قطعانية، همجيَّة سطحية، إلى حالة فردية مُستنيرة متنوعة تُثري وتُؤثر في الأخرين، فالحداثة لا ينبغي لها أن تُجاري العصر، بل أن تصنع وعي هذا العصر، وتُعيد تشكيله من جديد، الحداثة لا تقتصر على زمان مُعيَّن، فلكل زمان حداثتهُ بحداثة قضاياهُ ومُنتجاته الصناعية وتراكُمِ أفكاره جيلاً بعدَ جيل، الشعر مبادرة لا مسايرة وتكييف، الشعر مغامرة، وخروج عن الوعي الجمعي وطريقة تفكير وطرح رؤى تحل مشكلات هذا العصر بعمق من الجذور، لا بالغوغاء ومدح القادة مهما كانوا، أو ذمهم بأقبح الكلمات، الشِّعر متى دخل السياسة فسد.
الشعر ليسَ أداةً للشكوى أو لتمثيل دور الضَّحية، الشعر لا بد لأفكاره ومشاعرهِ التي يطرحها أن تغير الواقع وتصنع الحدث لا أن تشاهد الحدث ومن ثم تتفاعل معه، لا أن تقول ما الذي حدث؟ الشعر تصور كوني انساني وجودي للعالم لا مناطقي حدودي عُنصري، فئوي أيدلوجي نرجسي، الشعر تغيير نظرتنا للأشياء، لِنُغيِّرَ الأشياء، لا مُجرَّدَ وصف الأشياء، أو ترديد لما تقولهُ الأشياء، الشعرُ كتابة تجربتنا نحن عن الحب مثلاً، لا وصف الحب كتجربة عامَّة، الشعر مُحاولة لاقتناص المعنى غير الظَّاهر للأشياء، الشعر نافذة لعرض العالم بصورتهِ الحقيقية، لا مع مساحيق التجميل أو التشويه والخُدع السينمائية.
ما زلت أُؤمنُ للأسف بحدوث نبوءتي في المستقبل القريب جداً، الشعر يا سادة ينامُ على وسادة صخريَّة باردة، في مرحلة موت سريري قد تستمر لعقود من الزَّمن للأسف قبلَ حدوثِ الموت غير المفاجئ، لن يستطيع الصُّمود، فمتطلبات الحياة الجديدة ستخلفه ورائها، مع تسارُع الأحداثِ التي ستُنسينا نشأتهُ أصلاً، الشعر العربي حي فقط في بيوتِ الشَّعراء، وميتٌ خارجَ بيوتهم، والشعراء سيغدو كل واحد منهم في جزيرة، لا يسمعه الناس إلا مجاملةً، وسيقتصِرُ دورُ الشِّعر على التنفيس عن من يكتبه لا من يقرأه، لأنَ الشاعر هذه الأيام يكتب ليسمع من لا يقرأون، لا أن يُسمع ذاتًه أولا، فيضطر لكتابة ما يريدون لا ما يريده هو، مُستقلُ القصيدة ليس على المحك، بل تعداهُ، ونحنُ نواسي أنفسنا، الشعر يحتضر شئنا أم أبينا. المسألة مسألة وقت لا أكثر.
1 فبراير 2019م
كل التقدير
ردحذف