فاتن فاروق عبد المنعم - مصر.
ومن الملاحظ أن أسماء مثل يوسف الخال وجبرا إبراهيم جبرا وأنسي الحاج وغالي شكري ولويس عوض وخليل حاوي وتوفيق صائغ وأنطون سعادة فضلا عن أدباء المهجر شكلوا وأرسوا قواعد الحداثة
***
بدأت على يد جملة متعاقبة من المفكرين الغربيين متأثرين بعقائدهم المحرّفة وأصولهم وميراثهم القديم من الآلهة اليونانية والإغريقية، فبات منتجهم على تنوعه يعج بفلسفات استقت جوهرها من الأساطير القديمة وتعاليم التلمود الدموية والمادية، فكان لتعدد الآلهة ونفي المقدس نصيبا معلوما من هذا المنتج الذي تفشى وانتشر، فلا مقدس لديهم، ليغرقوا في الإلحاد والضلال نتيجة للفكر الوجودي الذي تفشى بينهم وأغرقوا أنفسهم وروادهم فيه، وينطلق من لدنهم الشيوعية والرأسمالية والوجودية والقوميات على تنوعها ثم تنحدر على مختلف أنواع الفنون والثقافة، التي أضحت معرضا لبضاعتهم المزجاة ومنتجهم، فيصبح كل دائر في هذا الفلك عليه أن ينتهج فكر الحداثة وإلا فلا، والمسمى وإن كان ساميا يتوق إليه كل من يولج هذه الميادين بيد أنها دعوة حق يراد بها باطل، فنفي المقدس وقتل هيبته في النفوس لهو الباب الأوسع لسحق العقيدة خاصة الإسلام، وهو إن تصدر المشهد اتحدت كل الملل الأخرى على هوة الاختلافات بينهم، فيصبح مرحب بتناول مفرداتهم من “تعدد الآلهة، والإله، والصلب……….إلخ
وكان ولا بُد من نشر هذا الفكر على نطاق أوسع، وبالأحرى هو نوع آخر من التطويق الناعم حتى لا نخرج من قبضتهم فمن لم يأتي بالتنصير المباشر فليأتي بالشيوعية والرأسمالية ومن يلفظ الشيوعية والرأسمالية فليأتي بالحداثة، فلن يعترف بالمبدع إلا إن كان حداثيا، وهو ما يعني أنها باب خلفي للفكر المنحرف أيا كان نوعه.
ومما لاشك فيه أن أي كاتب أو فنان يسعى للتفرد ولا يتوقف عن التجريب فإن سلمنا بالتجديد في شكل القصيدة العربية وجوهرها (وإن كان هذا حديث ذو شجون) فهو ولا شك مندوب ومستحب حتى ولو كان تأثرا بالترجمة، فالثقافات تتلاقح ولكن لماذا ينتهج الحداثيون العرب نفس منهج الحداثيين الغربيين كما هو؟!! بما يشي بإبراز عما يعتمل داخلهم تجاه الإسلام وهذا باعترافهم كما سنرى في السطور القادمة فإذا اعترض عليهم أحد تمثلوا دور الشهيد وأنهم ضحايا المتطرفين والإرهابيين فضلا عن نفي صفة فهم الفن والأدب عن من يخالفهم، بينما الحق والحقيقة هو أنهم يريدون أن يعيثوا في الأرض الفساد ويدعون إليه ولا يعترض عليهم أحد.
وعود إلى أصل تبنّي الحداثة في الثقافة العربية، فإن الآخر طامح دوما في السيطرة علينا بكل وسيلة ممكنة حتى يتحقق لهم المأمول فكان ولابد من الإجهاز على الثقافة والتي بها يغزوا العقول، فجعلوا من مسيحي الشام ومصر طلائعهم في معركتهم الجديدة، معركة العقيدة والثقافة (الغزو الفكري) فتسلل من خلالهم مفاهيم جديدة مناقضة للإسلام (القومية والعلمانية والحداثة) فبسطوا نفوذهم على جرائد مثل الهلال والمقطم والأهرام والمقتطف والشرق، والجريدة المصرية كلها أسسها خريجو الكلية العلمانية في بيروت 1911 ثم ظهرت مجلة “شعر” ليوسف الخال و”حوار” لتوفيق صائغ، ثم قام هؤلاء مع جملة من أدباء المهجر بإنشاء “الرابطة القلمية” التي تبنت بقوة محاربة القديم والتي قال عنها أحد النقاد ما يلي:
إن الحملة على القديم وأتباعه لم تنتظم إلا مع ظهور الرابطة القلمية عام 1920 في أمريكا الشمالية والعصبة الأندلسية في أمريكا الجنوبية عام 1933 فكانت الحملة بشكل عام ثورية جارفة في الأولى راغبة في قطع كل علاقة بين الحاضر والماضي، وهادئة تدريجية في الثانية ولعل أبرز الثائرين على القديم جبران خليل جبران وخليل نعيمة وتستهدف ثورتهما مفهوم الشعر وعناصره الشكلية الموضوعية.
ومن الملاحظ أن أسماء مثل يوسف الخال وجبرا إبراهيم جبرا وأنسي الحاج وغالي شكري ولويس عوض وخليل حاوي وتوفيق صائغ وأنطون سعادة فضلا عن أدباء المهجر شكلوا وأرسوا قواعد الحداثة حتى قرر مجموعة من الباحثين في تاريخ الأدب أن:
“جبران وزملاؤه من كتاب الرابطة القلمية كانوا الرسل الأمناء الحقيقيون الذين راحوا يبشرون بالمبادئ المسيحية الحقة”
ومن خدمات أصحاب الرابطة القلمية أنهم أرسلوا لحضور مؤتمر الصلح الذي عقد بعد الحرب العالمية الأولى وفيه قدموا ورقة وقعوا عليها يقولون فيها:
“إن السوريين ليسوا بعرب، وأن اللغة العربية التي يتكلمون بها اضطرهم العرب الفاتحين إليها بدلا من اللغتين الآرمية الوطنية واليونانية اللتين كانتا اللسان الشائع في البلاد السورية”.
وكأن سوريا كانت جزءا من اليونان أو الرومان!! ، إنها نفوسهم تفيض بما يعتمل بها.
وعبد المسيح حداد هو أحد مؤسسي الرابطة القلمية فقد صرح بأن أعضاء الرابطة كانوا يرون أن الأدب العربي هو “الوجه الآخر للإسلام” ومن أجل ذلك وقفوا منه ومن اللغة العربية المواقف المعروفة.
أعضاء الرابطة القلمية كلهم من المسيحيين حتى وإن انضم إليهم مسلمين فيما بعد ولكنهم تبنوا ذات الفكر أكثر من المؤسسين فلننظر معا ماذا فعلوا بالأدب العربي “الوجه الآخر للإسلام”
يقول أنطوان أبو زيد في مقال بعنوان بين الحداثة والتحديث نشر في مجلة الناقد يونيو 1989 :
يؤثر كثيرون من الشعراء عدم الكتابة إلا انعكاسا كليا لمرآة الحداثة الغربية، إذ نعترف بأن الغرب يقدم اليوم لنا غالبية عناصر الحداثة الأدبية الشعرية فإن الانقياد والامحاء الكلي أمام نماذجه يحرماننا من تكوين لغتنا الشعرية الخاصة.
إنه الاعتراف الأسيف بالتبعية المهينة للغرب ذو الأهداف المعروفة في بلادنا والذي يوظف كل شيء لخدمة هذه الأهداف.
أما سعد الله ونوس في نفس المجلة وبنفس العنوان في العدد 1990 يقول:
“لقد كان التحديث ويا لسذاجتنا نحن التقدميين شعارا شافا، وأحيانا شفافا لإنجاز التبعية الكاملة للغرب”
وهكذا فإن أعضاء الرابطة القلمية والسائرون على دربهم يرون أنهم يتكلمون لغة لا قيمة لها عندهم ومستطونين أرضا لا منزلة لها إلا إذا كانت امتدادا للغرب فكرا وعقيدة وحضارة
لاحظ نغمة الانسلاخ من جذورنا كيف بدأت أو بالأحرى كيف تلقفتها هذه المسوخ من المستشرقين.
وفي مصر سلامة موسى يقول نفس الأقوال الذي تبناها أعضاء الرابطة القلمية:
“إطلاق اسم الشرق على مصر خطأ فاحش، فقد عشنا نحن نحو ألف سنة ونحن جزء من الدولة االرومانية، فلا نحن ولا العرب أمة شرقية، وإذا كنا نحب السير مع أوروبا فليس ذلك لأننا والأوروبيين من دم واحد وأصل واحد فقط، بل لأن ثقافتنا تتصل بثقافتهم من عهد مدرسة الإسكندرية ومجمع أثينا”
امتدت دعوة التغريب من مسيحي الشام ومصر إلى بعض المسلمين المهزومين نفسيا مسحوقي العقيدة والذات، فانطلقت ألسنتهم وأقلامهم بالدعوة إلى التغريب وقطع كل صلة لنا بالعربية وآدابها وإن كانت اللغة العربية هي اللبنة التي يبنون بها معمارهم التغريبي، وعلى ذات الدرب سار الكثير منهم القطب التغريبي الأكبر طه حسين الذي قال:
“إن العقل المصري منذ عصوره الأولى، عقل إن تأثر بشيء، فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط”
وهو القائل أيضا “إن المصريين خضعوا لضروب من العدوان جاءتهم من الفرس واليونان ومن العرب والترك والفرنسيين على حد سواء”
أما المتوثن أدونيس (النصيري الشيعي) فلا يخفي كرهه للعرب والعربية فيقول:
“لا إبداع مع العروبة وتراث العرب لأن العرب شعب ليس حيا في الحاضر وليس له مكان في المستقبل، لأنه شعب محاصر بين فعلين يرث أو يقتبس”
في الوقت ذاته يمتدح الثورة الإيرانية ولا يخفي انتماءه لإيران فيقول:
أفق ثورة والطغاة شتات / كيف أروي لإيران حبي / والذي في زفيري / والذي في شهيقي تعجز عن قوله الكلمات / سأغني لكم لكي تتحول في صبواتي / نار عصف تطوف حول الخليج / وأقول المدى والنشيج / أرضي العربية، ها رعدها يتعالى / صاعدا خالقا وحريقا / يرسم المشرق الجديد ويستشرف / الطريقا / شعب إيران يكتب للشرق فاتحة / الممكنات / شعب إيران يكتب للغرب / وجهك يا غرب ينهار/ وجهك يا غرب مات / شعب إيران تأصل في أرضنا / ونبي / إنه رفضنا المؤسس ميثاقنا العربي.
والمتأمل في مجمل كتابات العلمانيين والمستغربين سيجد أنها بعيدة عن الإسلام والتربة التي نشأ بها واللغة التي أنزل بها وإن استخدموها في كتابتهم فمن خلالها عملوا على إحياء الوثنية السابقة على الإسلام من البابلية والفينيقية والفرعونية، والمسيحية واليهودية المحرفتين، فضلا عن أن لديهم “شركة متعددة الآلهة” فلديهم إله لكل شيء حتى الصمت له إله في الوقت نفسه فإن الله بين أيديهم ينام ويتزوج وينجب ويغفل ويقتلوه ويعبس وجهه لأن أحدهم كفر به، تقدس وتعالى وتنزه عما يقولون.
يقول محمد الماغوط:
ولكن يا أيها التعساء في كل مكان/ جل ما أخشاه/ أن يكون الله أميا
عبد العزيز المقالح:
يكاد النهار على أفقهم أن يموت/ ويحتضر الله والعقل خلف معابدهم/ في البيوت
محمد علي شمس الدين:
أخذت زينة نهديها/ وتعرت لتصير أشد نقاءا من قلب الله
سميح القاسم:
ومشيئة الرحمن والأقدار/ بعض من نفايات القرون
انقضى كل شيء/ كانت المئذنة/ شارب الله تحت النعال الغريبة
معين بسيسو:
أخفتني عاهرة/ ووشى بي قديس/ كان الله معي/ لكن الله هناك يدلي بشهادته/ في مركز بوليس/ فتح المحضر: ما اسمك؟، كم عمرك، ما عنوانك/ مهنتك……وكانت مهنته الله/ أخذوا بصمات الله/ والتقطوا صورته/ كان الله معي/ لكن الله ورائي كان هو المخبر/ آلة تسجيل قد غرست في قلبي/ آلة تسجيل قد غرست في قلب الله.
نزار قباني:
من بعد موت الله مشنوقا/ على باب المدينة/ لم تبق للصلوات قيمة/ لم يبق للإيمان أو الكفر قيمة.
لماذا نكتب الشعر وقد/ نسى الله الكلام العربي.
وعن كرهه للغة العربية والدين يقول:
اللفظة جسد مهترئ / ضاجعه الكاتب والصحفي / ضاجعه / شيخ الجامع / اللغة إبرة مورفين / يحقنها الحاكم للجمهور / من القرن السابع / اللفظة في بلدي امرأة / تحترف الفحش من القرن السابع.
لاحظ ما يقوله هذا المأفون أن المرأة احترفت الفحش من القرن السابع (وهو القرن الذي نزلت فيه رسالة الإسلام على نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم) ولكنه لم يخبرنا ماذا فعلت المرأة بعد ظهوره هو وأضرابه؟!!!!!!
ويقول أيضا:
أرفضكم جميعا / وأختم الحوار / لم يبقى عندي لغة / أضرمت في معاجمي / وفي ثيابي النار.
وفي معرض استهزائه باللغة العربية واعتبارها بلا قيمة يقول:
وتمضغ مرة أخرى / حروف الجر والكسر التي كنا مضغناها.
ويقول: ومازلنا نجادل بعضنا بعضا / عن المصروف والممنوع من الصرف
ويقول: سقطت في الوحول كل الفصاحات / مات الخليل والفراء
أنسي الحاج:
تقتل الكلمة جسد الله بعد قتل الله روحا وجسدا/ الصلاة تسقي الله كما يسقي الحب المرأة
مظفر النواب
ركض البستان، وكان الرب على أصغر برعم ورد/ ناديت عليه ستقتل/ فاركض/ ركض الرب.
أما المتوثن أدونيس (سامري الحداثة) فيقول:
كاهنة الأجيال، قولي لنا/ شيئا عن الله الذي يولد/ قولي، أفي عينيه ما يعبد.
ويقول تهكما على الله وملائكته:
كثيرا حبس الخالق الشمس والقمرتأديبا/ كان حين يتوبان/ويستأذن بالشروق/يأتي إليهما ملاك يأخذ بآذنهما ويطلعهما/ من باب التوبة/ كان الخالق حين يخرج أنثى إلى الأرض/ يبعث إليها ملكين/ يضع الأول يده بين ثدييها/ ويضع الثاني يده في مكان آخر(فرجها)/ حين يتعب المكان/ يحملانها إلى ظل تحت شجرة المحنة/ أمر الخالق ما يسمونه الوطن أن يجلس على/كرسي من الزجاج بهيئة السرطان وحوله تماثيل
صلاح عبد الصبور:
ياصاحبي/ ما نحن إلا نفضة رعناء من ريح سموم/ أو منية حمقاء/ والشيطان خالقنا ليجرح قدرة الله العظيم.
في مسرحية ” مسافر ليل” لصلاح عبد الصبور وهي التي تمتلئ بأقوال كالآتي:
يا عبده/ قف واسمع وصف هذه التهمة/ أنت قتلت الله/ وسرقت بطاقته الشخصية.
أما محمود درويش العضو بالحزب الشيوعي بكنيست الكيان الغاصب لفلسطين ومع ذلك
“هو شاعر القضية “يقول مخاطبا حبيبته:
نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير
ومن ديوان أحد عشر كوكبا يقول:
أقل احتفالا على شاشة السينما، فخذوا وقتكم كي تقتلوا الله/ ونعرف ما هيأ المعدن – السيد اليوم من أجلنا/ ومن أجل آلهة لم تدافع عن الملح في خبزنا/ وتعرف أن الحقيقة أقوى من الحق، نعرف أن الزمان/ تغير، منذ تغير نوع السلاح، فمن سوف يرفع أصواتنا/ إلى مطر يابس في الغيوم؟
أما تشكك بدر شاكر السياب في وجود إله في السماء مدبرا سميعا بصيرا فيقول:
نرى العراق يسأل الصغار في قراه/ ما القمح؟ ما التمر؟/ ما الماء؟ ما المهود؟ ما الإله؟ما البشر؟/فكل ما نراه/ دم ينز أو جبال، فيه، أو حفر/ أكانت النساء والرجال مؤمنين/ بأن في السماء قوة تدبر/ تحس تسمع الشكاة تبصر/ ترق ترحم الضعاف تغفر الذنوب؟
ثم في نفس القصيدة يؤله أوثان اليونان فيقول:
ليعوسر بروس في الدروب/وينبش التراب عن إلهنا الدفين/ تموزنا الطعين/ أواه لو يفيق/إلهنا الفتي لو يبرعم الحقول/ عشتار ربة الشمال والجنوب/ ليعوسر بروس في الدروب/ لينهش الآلهة الحزينة، الآلهة المروعة/ فإن من دمائها ستخصب الحبوب/ سينبت الإله/ فالشرائح الموزعة/ تجمعت تململت، سيولة الضياء/ من رحم ينز بالدماء.
أمل دنقل:
خصومة قلبي مع الله ليس سواه/ فهل نزل الله عن سهمه الذهبي لمن يستهين به/ هل تكون مكان أصابعه بصمات الخطاه/ خصومة قلبي مع الله….. ليس سواه.
وهذا ليس إلا معراج طفيف على منتج بعضهم.
أما هؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم إن أرادوا الحديث عن القرآن سموه “صوت الألوهية” أو “نتاج الغيبوبة” والحكم الإسلامي يرمزون له بالملح والرماد والجفاف، أما قرون الهجرة والفتح الإسلامي والخلافة يرمزون لها بالإبل والسفر والنخيل والبخور والتعاويذ والصحراء والهجير والرمال الضريرة والعمائم المتخمة والأعشاب الميتة.
ويوجز حنا عبود في مقال له نشر في مجلة الناقد فبراير 1989 أنهاه بقوله:
النواة الأساسية التي أبقت عليها الحداثة فهي إسقاط القداسة عن كل شيء، لم يعد هناك شيء مقدس أبدي لا في عالم الفكر ولا في عالم المادة وعلى هذا يمكن القول أن الحداثة الصناعية (التي أعقبت عصر النهضة الأوروبية) أو الحداثة المعاصرة هي محاولة استعادة الصيغة الوثنية للحداثة الزراعية(التي رافقت العصر الأغريقي واليوناني بآلهتهم المختلفة)
أما القاسم المشترك فهو إسقاط القداسة عن كل شيء فلا العروض ولا القوافي والأوزان والإيقاعات والكلمات والتصريحات ولا العقائد والأفكار والمذاهب والآراء والعادات والتقاليد والطقوس والممارسات ولا الأحزاب والكتل والفئات والمجموعات والأفراد ولا الأنظمة والقوانين والدساتير ولا المكان والزمان والشهور تحظى بأي قدسية، ومن هنا كان تشديدنا وتأكيدنا أن الحداثة ليست مذهبا أو عقيدة أو مدرسة واحدة ولا يمكن أن تنحصر في مذهب أو عقيدة أو مدرسة، الحداثة هي الوضع المناقض تماما للوحدانية، أي وحدانية أدبية كانت أو غير أدبية، عقائدية أو غير عقائدية.
إنه الاعتراف الصريح بكون الحداثة هي عقيدة الهدم والتفتيت لكل الثوابت ودون ذلك فلا إبداع يذكر ولا مبدعون حقيقيون، إنهم ليسوا إلا امتداد للشعوبيين الذين ظهروا في الدولة الأموية واشتد عودها في الدولة العباسية ثم خفت صوتها لتعود من جديد مع “المبشرين بالحداثة” ولا غرو فإن كهان الحداثة الأول كلهم كانوا من المسيحيين والشيعة والنصيريين والباطنيين، وكما عرضنا آنفا من قول أحد مؤسسي الرابطة القلمية من كون الأدب العربي هو الوجه الآخر للإسلام فاتخذوا منه ومن اللغة العربية موقفهم المعروف، والبداية كانت بديوان العرب “الشعر” فإن أستاذا انجليزيا واحدا كان كافيا لغرس هذا النبت الشيطاني فيجهز على العقيدة من خلاله.
في العراق تتلمذ عبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب على يد أستاذ إنجليزي عبث في عقولهم لينطلق على أيديهم قطار الحداثة الثاني بعد جيل رابطة القلم وتلك انطلاقة أخرى لا تقل ضراوة عن الأولى فالآلهة حاضرة بقوة بين أيديهم.
كتبت نازك الملائكة عن الحداثة بعد أن استشعرت فداحة هذا الاتجاه وخطورته في مقدمة مجموعة قصائد بعنوان “شجرة القمر” 28/3/1967 فقالت:
لم يكن يدور في خلدي أن أناسا من الشعراء سيتخذون عملي الاضطراري (شعر التفعيلة) سنة يحتذونها في منشوراتهم الشعرية ودواوينهم، أرفع صوت احتجاج على زملائي الشعراء الذين أصبحوا يكتبون شعرا موزونا على الأسلوب العربي ثم يدرجونه وكأنه شعر حر فإن هذا العمل لا يزيد القاريء العربي إلا بلبلة وجهلا.
وفي موضع آخر تقول:
وقد يعجب بعض الشعراء من قلة هذا العدد بالنسبة لقصائد الديوان لأنهم ألفوا أن يروا طائفة من الشعراء وقد تركوا الأوزان الشطرية العربية تركا قاطعا وكأنهم أعداء لها وراحوا يقتصرون على نظم الشعر الحر وحده في تعصب وعناد……أحب الشعر العربي ولا أطيق أن يبتعد عصرنا عن أوزانه العذبة الجميلة، ثم إن الشعر الحر كما بينت في كتابي ” قضايا الشعر المعاصر ” يملك عيوبا واضحة أبرزها الرتابة والتدفق والمدى المحدود وقد ظهرت هذه العيوب في أغلب شعر شعراء هذا اللون ….، وإني على يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية بعد أن خاضوا في الخروج عليها والاستهانة بها.
ومؤخرا سمعت أكثر من ناقد أدبي يقول إن الشباب اليوم يطوي صفحة الشعر الحر ويعود إلى القصيدة الخليلية، فهل تحققت نبوءة نازك الملائكة؟
وللحديث بقية .