الأردن - محمد الحوراني
لا أتذكر من طفولتي شيء ..
لا أتذكر أنّني كنتُ يوماً "ولد" ..
لا أتذكر شيءً من بساطتي ولا لمحةً من سذاجتي ولا نبذةً من براءتي، لا يوجد بين صفحات الماضي أيُّ خربشاتٍ عابثةٍ أوكلماتٍ مكتوبةٍ بخطٍّ ركيك فوق السطرِ أو تحتهُ ..
لا أذكر وجهَ معلِّمي ولا تهاليل جارِنا وقت الفجر ولا صوت بائع الذرة، حتى حين أغمضُ عيْنيَّ في محاولةٍ يائسةٍ لاسترجاعِ أيّ ذكرى .. لا أرى شيء .. لا أسمع شيء ..
لا يضيءُ في ظلام ذاكرتي إلا وجه أبي وملامحه الرجوليّة القويّة المُتعَبة، وفي صدى الفراغ أسمع صوته الرّخيم يقول "يا محمد، يلّا روح معي" ..
لا تحضُرُ في مُخيّلتي الأماكن التي كُنا نقصدها أو الطُّرق التي كُنا نسلكها .. لكنّني أتذكر الكثير من وصاياه وحديثه لي عن الدراسة وأنّه كان يُريدني دائماً "شاطر" ..
أتذكّرُ جيّداً صبرَهُ عندما يُعلمني وشدّتَهُ عندما يُصَوِّبني وقسوَتَهُ في العقاب إذا أخطأْت، لم أنسى يوماً الإنفعالات والكلمات الصامتة التي كانت تجهرُ بها عيْناه العميقتان وتعابير وجهِهِ الحادّة؛ أتحدث عن ابتسامةِ الفخرِ التي كانت تتصدّرُ تفاصيلَهُ عُنوةً عندما أكون ذلك الطّفل المميّز حتى لو لم يلاحظ هذا التميّزَ أحدٌ غيرهُ، وعن الأمنياتِ المرسومةِ بخطوطٍ من الحسرة والغضب على جدران قلبِهِ عندما كنتُ أطلب ولا يستطيع أن يُلبّي ..
لا زالتْ أُمي تُحدثُني عن نظراتِ أبي نحوي عندما أكون غارقاً في نومي أو لاهِياً بأحلامي الطفولية، كانت نظراته تقول لي "اكْبَر يا بُنيّ .. مزِّق حدودَ الزّمن وحطِّم جدران العُمر .. انهضْ من طفولتِكَ ودعني أراكَ رَجُلاً عظيم البأس .. ساندني يا صبيّ فقدْ تعبتُ من القتال وحيداً" .. ورغم ذلك لم أشعر في أيّ لحظة بأن هذا الفارس المِغوار يعرف معنى التّعب أو شكل الضّعف .. كنتُ أراهُ بطلاً لا مثيل لهُ حتى في القصص الخياليّة فقد كانتْ هيْبتهُ تحجبُ حرَّ الشّمس وتكتِمُ صرخات البرد؛ كان صدرهُ باتّساع السّماء وقلبه مكتملاً كالبدر وكانت النّجومُ تتناثرُ حولَ كَتِفيْه ..
لا يُمكن لي أن أنسى أبداً شعور الدّفء الذي كان يسري في جسدي الصغير عندما يُمسكُ يدي ولا نشوة الانتصار التي كانت تعتريني إذا قال لي "أبشر" ..
كنتُ أُحِسُّ بالأمان والطّمأنينة عندما أُناديه ويرد "نعم يابا" ...... الآن أنا أُناديه ولا يرد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق