زيد الحق العقاد - بوابة اليمامة الثقافية
كانت تلك اللحظة أجمل لحظة في حياته بل أكثرها صدمة حين انهمرت من عينيه دموع الفرح، عندما حصد الترتيب الأول على مدارس منطقته في الثانوية العامة.
كانت الحياة تعني لعبد الله الكثير، لم تكن بالنسبة له مجرد أيام تتوالى ويحكمها روتين يومي ممل، بل تتعدى ذلك حيث كانت مفعمة حياته بالجد والمثابرة والعزيمة التي رافقته منذ نعومة أظافره، لكنها لم تكن سهلة فالظروف التي كان يواجهها في كل مرحلة يمر بها، يتجاوزها بكل ثقة وشغف بعد صراع يدوم طويلا بينه وبين ذاته التي تعشق المغامرة.
بعدما حقق القدر لعبد الله فرحته الأولى بحصاد معدل امتياز في الثانوية العامة، وتلك الفرحة بالنسبة له لا يضاهيها أي فرحة لاسيما حققها بعد تعب شاق وليال من السهر ومجاهدة نفسه، لحسن حظه تم قبوله بجدارة لدراسة الهندسة في إحدى جامعات اسبانيا، بعد مقابلات وتصفيات حازمة قامت بها الجهة المانحة وبفضل مثابرته تم اختياره مع ثلة من الطلاب من بين الآلاف ممن تقدموا لها، ليال وسيكون حلمه الذي رسمه في مخيلته على مشارف التحقيق، نام ليله للمرة الأخيرة على سريره الدافئ بينما هو سارحا في مستقبله الذي بدا له كالطفل الضاحك: الحمد لله, بعد ليال شاقة سأقوم بتخطيط حياتي..ربما ستواجهني تحديات لكن ذلك بديهي للوصول إلى مبتغاي، فمن تكن العلياء همة نفسه فكل الذي يلقاه فيها محبب، فجأة نهض من سريره محدقا بالحائط الذي كتب عليه تلك العبارة التي جعلته يعشق التحدي وكانت تسانده وتحقن في عروقه التفاؤل المتجدد عندما يواجه عائقا في حياته، أخذ أنفاسا عميقة ثم استلقى على سريره غارقا في أحلامه الدافئة التي تراودها أطياف من الأمل والسعادة، جاء الصباح وبدأ قلبه بالخفقان وهو ينظر إلى أمه التي ذرفت دموعها على رحيله بينما تقوم بتحضير الفطور له، اقترب منها ومسحت يده دموعها وقال لها: كل شئ سيكون على ما يرام بإذن الله ,سأرحل عن حنانك الدافئ ولكنني سأشعر به عندما تذكريني بين طيات دعواتك الحنونة، وقبل يدها وخرج باكيا قلبه على الرحيل لكن أيقن في نفسه إن تحقيق حلمه الذي طالما سعى لأجله سيواسي قلبه عن فراقها المؤلم ، وخرج من بيته تاركا ضحكاته البريئة وذكرياته الجميلة التي بكت على أطلالها جدران بيته الذي ترك عليه بصمة بفعل عباراته التحفيزية التي باتت تؤانسها، وقبل أن يركب السيارة ويذهب إلى المطار، قام بوضع كومة من التراب الذي يعبق برائحة أجداده في جيبه بعدما امتلأ صدره العميق بعبقه الذي كاد أن يشبه رائحة الياسمين بعد سقوط المطر على تلك الأزهار اليافعة، ظل يتأمل بشوارع بلاده للمرة الأخيرة وقلبه يعج بتلك التنهيدات التي تكللت بابتسامة أمل على شفتيه، وصل المطار ودقت ساعة الرحيل وكاد أن يصاب بالإغماء نتيجة التوتر الذي استوطن نفسه، لم يتفاجئ عندما جلس أكثر من ساعتين ليأتي دوره عند الموظف كي يختم على جواز سفره، لكن فجأة أصابته تلك الكلمات بصدمة قاسية، أنت مرفوض للسفر!! ، التنسيق الأمني لم يدرج اسمك ضمن كشوفات المسافرين، ماذا يفعل بعد طول انتظار الذي بدا له كصرح من الخيال فهوى، لماذا حصل ذلك؟ لأني فلسطيني!!أم خارج لأتعلم، لا أدر ما الجريمة التي ارتكبتها بحق العالم لأكون مضطهدا هكذا…أم لأنني أتحدى العالم من أجل حقوقي المسلوبة!!وبينما هو جالس وفي حيرة من أمره، سمع صوت يتكلم بغضب على هاتفه وكأنه يوبخ شخصا ما ، التفت ناظرا إليه ولحظات ثم أقبل عليه وصافحه وكان متلهفا لمعرفة أمره الذي جعله يصرخ هكذا… عبد الله من غزة ،أيمكنني مساعدتك إن أمكن؟؟ أبي الخيزران…ثم صمت فترة وجيزة ثم أكمل حديثه، أعمل على تهريب الناس عن طريق البحر، فانزلقت إلى رأسه تلك الفكرة، ولماذا لم أغامر بذلك؟؟مضت ثلاث ليال وهو يتخذ من المطار مأوى له ويعانق شتى أنواع الظلم والاضطهاد فضلا عن تلك الليال ذات البرد القارس التي قضاها على أرض المطار ، ذاق مرارة الحرمان والوجع التي لم يتخيلها يوم ما ، جميعا واجهته في تلك الليالي التي لم يرافقه فيها أحد سوى خياله الباكي ودموعه التي أصيبت بخيبة أمل، لم يدر ما الذي يموج في داخله، يرجع إلى حيث كان ويودع حلمه المسلوب الذي قضى ليال من الوجع لأجله ولأجل تلك اللحظة أم يرافق أمله المتجدد ويطاوع نفسه للمغامرة في عباب البحر الذي ربما يقوده إلى مصير مجهول، وبينما هو سارح في التفكير جاءه اتصال من الحكومة الاسبانية، مرحبا…عبد الله على الهاتف، أجل! أمامك فقط ثلاثة أيام وإلا ستفقد فرصتك في المنحة التي حلم بها الكثير، في هذه اللحظة لم يكن خياره سوى المغامرة التي ستلقيه إلى قدر مجهول، وكانت صدفة عندما التقى بأبي الخيزران للمرة الثانية حيث طلب منه مساعدته بالسفر عن طريق البحر وإلا سيفقد حلمه، وافق أبي الخيزران على مساعدته وبعد إتمام بعض الإجراءات اتفقا أن يلتقيا بالمطار الساعة الثامنة صباحا ليصافحا شبح الغربة الذي آنس أحلامه في ليلته الأخيرة في المطار، جاء الصباح الذي عانقته موجات من الضباب البارد، وكعادته لم يسلم من التوتر والقلق الذي احتل جسده العاشق للمغامرة لم يكن يعلم أن تلك المغامرة لم تكن مثل مغامراته السابقة بل هي أشدها خطورة وربما ستكلفه الكثير، وجاء القارب الذي سيبحر به في فضاء البحر الواسع المتلاطمة أمواجه التي بدت في مخيلته كالطفل الحائر، مضى عباب البحر ودقات قلبه ترافقها رهبة من خيبة الأمل ، مضت رحلته الأولى إلى مصر حيث قضى ليلة واحدة في القاهرة كانت من أجمل الليالي التي عاشها على ضفاف النيل اللامعة مياهه وأضواء القوارب ذات الأشرعة الخجولة على شاطئه، تلك المدينة الساحرة سلبت التعب من جسده المنهك والنوم من عينتيه بعد نهار شاق في أحضان عباب البحر، بات تلك الليلة في فندق يدعى بالهيلتون حيث لقي الاحترام والتقدير من موظفيه التي جبرت خاطره المكسور من المعاناة التي واجهها بالمطار، بعد يوم شاق استلقى على سريره في الغرفة, فإذا الباب يطرق: عبد الله.. نعم…هذا شئ بسيط من إدارة الفندق لك،كانت مائدة عشاء صغيرة، لكن الرغبة في الاسترخاء والنوم ؟ بالنسبة له فاقت حدودها وكانت أقوى من جوعه، جاء الصباح ففتح عينيه على أنغام أصوات العصافير وخيوط أشعة الشمس الدافئة ارتسمت على جدران غرفته، وأمواج النيل تتهادى بين نسيم الهواء الدافئ، فتح ستائر غرفته وأخذ أنفاسا عميقة ثم استعد للرحيل لبدأ مغامرة جديدة، نزل للأسفل وقام الموظف بتوديعه وأصر ألا يأخذ منه أجرة الليلة، وانصرف لمقابلة أبي الخيزران الذي غدا من الفندق مبكرا كي يقوم بتجهيز قاربه لمغامرة جديدة، مضى وأبي الخيزران في القارب لكن جمال المدينة الفاتنة والطبيعة الخضراء من حوله أنسته بتلك المغامرة وكاد قلبه يتباكى على فراق مدينة الحياة التي تركت بصمة في مخيلته وكيانه، بدت الأجواء تضطرب وبدا موج البحر المتلاطم كالمصارع الذي يقاتل على الحلبة، وأخذ القارب بالتراقص مع تلك الأمواج الثائرة، لكن لحسن الحظ وصل القارب إلى الجزائر بسلام بعد موجة عاصفة كادت تغدر به، بعد تلك المجازفة التي عاشها على ضفاف القارب المتمايل استقرت في قلبه كأطياف من شبح مرعب رافق كيانه، لم يكن يريد بإكمال مغامرته لكن طموحه المتناثرة بداخله قتلت تلك الرهبة، ولكن لم يبقى أمامه سوى يومين، بل ربما يلزم الأمر أن يستقر هناك أكثر من ذلك الى حين تحسن الظروف المناخية وتكون الأوضاع الأمنية مستقرة حيث كانت الأوضاع هناك تنذر بثورة ضد الاستعمار الفرنسي ونظام الحكم الفاسد يقوم بها الجزائريون، ولكن الأزمة بدت تتفاقم وتزداد سوءا ، إضرابا عم البلاد وانتشرت الضرائب إلى جانب انعدام الأمن وازدياد الأوضاع المعيشية سوءا، لكن كل هذا كان هينا عليه أمام ذاك الخبر الصاعق الذي هز شعوره عندما تناقلت وكالات الأنباء الإخبارية باستشهاد رفيقه أبي الخيزران أثناء مشاركته بالثورة الجزائرية، تمالكت مشاعر الانكسار والوحدة ملامحه، لكن الأمر الذي شغل تفكيره هو تلك المغامرة الأخيرة بوصوله لأسبانيا ولكنه لم يملك سوى يوم غد وإلا سيفقد فرصته، انتهز فرصة هجرة الجزائريون بالقوارب عن طريق البحر للتخلص من الظلم والاستبداد الذي احتل بلادهم ، كانت فرصته الأخيرة التي لم يفكر بعدها بأي عواقب ممكنة الحدوث نتيجة تلك المجازفة، مضى مع المهاجرين إلى القوارب واختنقت تلك النسائم الدافئة بدخان لهيب الثورة وعانق الضباب تلك المدينة الضاحكة، كان مشهدا مهيبا يوحي بالرحيل وآلاف القوارب الضاجة بالمهاجرين تتدفق إلى البحر لكن لسوء الحظ قامت السلطات الفرنسية بضرب تلك القوارب بالمدافع والقذائف وغرقت تلك القوارب واندثرت تلك الأحلام والطموحات في عمق البحر الهادئ وماتت الثورة ولقي عبد الله حتفه وهو يصارع عباب البحر الهائج وترك أحلامه التي تكللت بخيبات الأمل تصافح طيور النورس، وقال كلماته الأخيرة وهو مبتسم : وداعا أحلامي البسيطة فوطني الدافئ عجز عن استيعابك والعالم تجاهلها فعذرا يا وطني فأنا فلسطيني فقير وبسيط وليس ابن مسئول ولا من ذوي المناصب الذين إليهم القرار يؤول.
تحليل القصة
_المصير المجهول/ سبب التسمية لأن الشخصية لم تكن تعلم بمصيرها المأساوي المؤلم.
_المحور العام/تتحدث عن معاناة الشاب الفلسطيني عند السفر واضطهاده الذي يظل يرافقه أينما كان ووقوعه ضحية الغربة والظلم واستبداد الحكومات.
*الشخصيات/
_عبد الله: تيمنا بشهيد الغربة ولقمة العيش عبد الله المصري …رحمه الله
_قمت بذكر شخصية أبي الخيزران وهي شخصية قمت باقتباسها من رواية غسان كنفاني”رجال في الشمس” حيث كان في الرواية يعمل على تهريب الفلسطينيين في خزان شاحنة نقل للمياه ولكن في النهاية نسي الشبان الثلاثة واختنقوا داخل الخزان وقام بدفنهم بإحدى الصحارى ولكن في قصتي لم أجعل شخصية عبد الله تموت أيضا بسبب لامبالاته وتهكمه بل جعلت نهاية أبي الخيزران بالثورة الجزائرية .
_قمت بذكر البيت الشعري”ومن تكن العلياء همة نفسه فكل الذي يلقاه فيها محبب”، لأنه كان له دور في تغيير نظرتي للحياة وأيضا هذا البيت كنت استمد منه التفاؤل والأمل عندما كنت في الثانوية العامة وهو من قصيدة للشاعر محمود سامي البارودي.
_قمت بذكر عبارة ” صرحا من خيال فهوى” رأيتها مناسبة ومعبرة لذلك الشعور الذي عاشه عبد الله عندما فقد أحلامه أمام كلمات الموظف الصاعقة حيث قمت بتشبيه الانتظار الذي عاشه ويرى فيه كل أحلامه كالصرح من خيال وهوى فجأة بفعل كلمات الموظف, وهي اقتباس من قصيدة الأطلال للشاعر إبراهيم ناجي.
_قمت بإبراز علاقة الفلسطيني من أرضه حيث قامت الشخصية بشم تراب وطنها للمرة الأخيرة دلالة على تشبث الفلسطيني بأرضه رغم رحيله عنها.
_قمت بذكر أن كانت معاملة الفلسطيني في مصر بكل احترام وتقدير له لإبراز العلاقات الودية رغم تكالب المتآمرين على عدم إتمام الوحدة العربية.
_قمت بذكر الجزائر والثورة التي قاموا بها ضد الاحتلال الفرنسي وحكمهم الفاسد تيمنا بثورة التحرير الجزائرية ولإبراز أن الجرح العربي واحد ووحدة الوطن العربي ولن يتم التخلص من الظلم إلا بالقوة والثورة.
_قمت أيضا كالعادة بوصف مظاهر الطبيعة من الطبيعة الخضراء والنيل والنسيم الدافئ والشمس لإضفاء التفاؤل والايجابية في نفس القارئ على الرغم من السلبية التي تتحدث عنها القصة من معاناة الفلسطيني والظلم الذي يواجهه.
#تنويه// العبارات باللون الأزرق تشير إلى حوار الشخصيات مع بعضها.
وبحمد الله وتوفيقه انتهيت من كتابة واحدة الأعمال الأدبية التي تمثل قضية جوهرية وهي “الهجرة” وتمثل الواقع العربي المؤسف ومعاناة الفلسطيني واضطهاده الذي لقي من العالم الذي عجز عن استيعاب أحلامه البسيطة,وأتمنى أن تكون حازت على إعجابكم وأؤمل أن أكون قد وفقت في بلورة فكرتي بنجاح وايصال رسالتي .
#فضلا إذا أعجبتك قم بنشرها, وسأكون سعيدا إذا أبديت لي رأيك وانتقاداتك حولها هنا عبر الرابط أدناه بموقع صارحني….
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق