(الماء والسَّاحرة) - قصَّة قصيرة في الخيال العلمي
طلال بدوان - كوكبُ الأرض حاليًا
.
لا شيء مما طالهُ عَبثَ الإنسانُ يوازي جمالَ الطبيعةُ وسحرها المُلهم. حكايتنا هي من القصص العجيبة، التي بدأت فيها الطبيعةُ رسمِ قوانينها بالهامِ الصَّانع، ليتَّزنَ هذا الكونُ، وتستمر ماكينةُ الحياة دونَ توقف إلى أجلٍ مُسمَّى، في زمنٍ ما، كانَ الماءُ ينظُر إلى السماءِ بِحزنٍ عميقٍ وهوَ مقيَّدٌ بجاذبيَّة الأرض، يتأمَّلُ تلكَ الطُّيور المُحلقة بعيدًا والتي شَكَّلت لها الطبيعةُ جناحانِ لتطيرَ بهما كيفما شاءت، مُعلَّقةً في الهواءِ فرادى أو أسراباً في أشكالٍ مُتعدِّدة تُبهج الناظرين، وتلكَ الفراشات المُلوَّنة فوقَ البحيرة وبينَ ضفافِ الأنهار، كان الماءُ حزيناً حتى أن دموعه كانت ماءً هي أيضا، ماء وماء في كل مكان، يجلسُ بلا فائدةٍ هنا على فراشِ أرضٍ مقعَّرة للأسفل، تخترقهُ الأسماكُ ذات الزَّعانف الحادَّة، حتى أن لونهُ غير حقيقي، هذا الأزرق الكاذب، الغدَّار، الذي يُغرقُ الكثيرين في أعماقهِ، عيوناً وأجساداً، ومُتعبينَ، منهم من سينقرضَ، ومنهم من سيتكون حديثاً بعدَ ما سيحدثَ، ولكن ما الفائدة، يتململُ الماءُ المُضمَّخُ بالملحِ مُرددا في عقلهِ البِدائي: فأنا هنا لا أطير، لا أطير، وفجأةً سمعَ الماءُ صوتاً غليظاً له صدى يخترق الهواء إلى جزيئاتهِ مُشكلا أمواجاً دائرية تبدأ صغيرة ثمَّ تكبرُ رويداً رويداً، يقولُ الصوت: عزيزي الماء، طفلي العنيد، لقد حان الوقتُ الآن، أنا من ستحولكَ إلى طائر يحلِّقُ كالعصافيرِ بل وأبعدَ من ذلكَ أيضاً، ستقومُ بالتَّنقل من مكانٍ إلى آخر، تُخربشُ السَّماء بالجمال، كما الأعشاب التي ستغزو لاحقاً هذه الأرض، ترى كل العالم، تُعانق الجبال، وتعبر الحدودَ دون جواز سفر، التفت الماء بذهولٍ باحثاً عن مصدرِ هذا الصُّوتِ الذي لا يعلم هل هو من خيالهِ أم من كائنٍ آخر هناكَ، وإذ بقرصٍ كبيرٍ مُتلالئ وسط السَّماء جعلهُ لا يكادُ يفتحُ عينيهِ بالكامل، يخترقُ جسدهُ وينكسرُ في ذرَّاتهِ إلى سبعةِ ألوانٍ، سمِّيت بعدَ ذلكَ بالطَيف، نظر الماءُ باستغرابٍ إلى هذا القُرصِ سائلاً من تكونُ أو من تكونينَ؟ أجابَ القرصُ المستديرُ بلحنٍ أنثوي: أنا السَّاحرة "Sun" التي ستُحوِّلكَ كما تحلم، قارئةُ الأفكار ومُحقِّقةُ الأمنيات، أنا التي ستحلُّ لكَ مشكلتكَ يا مسكين، لقد رأيتكَ حزيناً تنظر إلى السَّماء وللطيور بحسرة، نظر إليها الماء بسخريةٍ وشك: أنتِ، أنا مجرد ماء، ماء مالح، حقير، أسيلُ كيفما شاءت لي المُنحدراتُ، بمسارٍ أفقي روتيني ممل، من تكونينَ لتفعلي ذلكَ! شعرت السَّاحرةُ بالغضب من كلامِ الماء فازدادت حرارةً وتوهُّجاً، أمسكت عصاها السِّحريَّة وأطلقت حرارةً شديدة جعلت الماء ينفصل على شكل قطرات صغيرةً جداً لا تكادُ أن تُرى، ولأوَّل مرةٍ في تاريخهِ، ، واحدة تلو الأخرى على شكلِ دخان متصاعدٍ، تعلو وتعلو وهي تنظُرُ للأسفل إلى البحر الذي يبتعدُ ويكبرُ في آن معاً في ذهولٍ، تنظر حولها وتتفقَّدُ أشياءها المتشابهة وهي تبتعدُ عن جسدها الأزرق رويدا رويدا، تاركة الملحَ خلفها، امتزج الصراخ بالحزنُ والضحك معاً، وتكملُ السَّاحرةُ حديثها بينما الماء يغني كالأطفالِ: ها أنا أطيرُ، أطيرُ أخيراً، هل هذهِ خدعة؟ تُكملُ الساحرةُ حديثها كمذيعة أخبارِ الطقسِ: نعم ستطيرينَ ولكن بشرط! أنكِ ستعودين بعدَ هذه الرحلةِ ماء مرةً أخرى بعدَ غروبي، ستغزلين القطنَ هناك في الأعالي بالقرب مني، قوق الطيور والجبالِ، فقط لا تنسي معطفكِ الرَّمادي أو الأبيض لو شئتِ، لأن الجو سيكونُ بارداً هناكَ، ستعانقين رفيقاتكِ أيتها القطرة الصغيرة ويزداد حجمكِ ثم ستهطلين، وتعودين إلى الماء مرة أخرى وربما في معدةِ كائنِ حي أخر أو ستحتضنين أحد البذور التي انتظرتك طويلاً ثم إلى الجذورِ والأغصان وإلى ما سيسمى بعد ذلك بالأوراق لترسمين اخضرارها، وأعدكِ بأن تعودين لنفس هذه الرحلة مرة أخرى. وربما في جبلٍ جليدي أبيض عائم فوق المحيط، أنا الساحرة شمس، مصدر الإلهام والطاقات، وهذه أحد قوانين الطبيعة التي ستشكل الحياة على الأرض فيما بعد. أنا السَّاحرة شمس وأنتَ بذرة الوجود، لا سكونَ بعدَ الآن، سيشربك أحد الكائنات ليرتوي بعدَ عطشٍ طويل ثم تسقطُين من عينيهِ دمعة مؤنثة، على شكلِ نقطة مالحة كأصولكَ، نقطةً لن تُنهي بالتأكيد هذا النَّص بينَ يدي طفلٍ يبتلعُ ريقهُ ليبدأ الفكرة بروحك صغيري العزيز، ماء، حِّلق وحلِّق بعيدًا ولا تنسى حبيبتك المخلصة، السَّاحرة Sun.
24/11/2018م
طلال بدوان – كوكب الأرض
ـــــ
اللوحة لـ: Pawła-Kuczyńskiego
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق