الفنان محمد نصر الله
الفنان التشكيلي محمد نصر الله
بقلم : فتحي صالح
لم يمر عليّ فنان فلسطيني زاخر بالعطاء والإبداعية، و يمتلك بديهة البوح الجميل بأسرار مخيلته المتفوقة بأعذب التصورات و أبهى التخيلات المرتبطة بأدوات التشكيل الحداثية على غرائبيتها وزخمها كالفنان محمد نصر الله نموذج الفنان الذي تفوق على ذاته، فالناظر إلى أعماله التشكيلية تنعكس على أحاسيسه و مشاعره تلك الروحانية التي تقدمها مداعباته على سطح لوحته و كأنها قصيدة بصرية تنفذ من خلال العين إلى القلب .. قصيدة تتلو حكاية شعب تقمصها شاعر مصلوب على جسد الذاكرة ، يتلو صلاته العبقة برائحة الأرض المقدسة و يدندن للحرية و الانعتاق، و لصبية صغيرة نضجت تواً و أخذت تحلم بفارس يلون حياتها بزهر يسوعي جليل ..انفتحت أساريري غبطة عندما شاهدت لأول مرة و بشكل أعم أعماله المنهمرة مثل زخ مطر أيلولي يحرض الثرى لينثر عبقه في الأرجاء مبشراً بالجمال القادم على صهوة الإبهار و الدهشة ، كان ذلك منذ سنوات عندما أطلعني أحد الزملاء التشكيليين على كتاب ضم طيفاً واسعاً من أعماله بعدما كنت قد رأيت له بعض اللوحات المتفرقة هنا و هناك في بعض المنشورات العربية .. انفلتت مشاعري من معاقلها دفعة واحدة و أنا أتصفح تلك اللوحات التي رأيت فيها الابتكارية الاستثنائية ...التقيته العام الفائت عندما كان في زيارة إلى دمشق ، و رغم أن اللقاء لا يعدو كونه تعارفاً فقد ترك في نفسي أثراً جميلاً و انطباعاً خاصاً لما لمسته فيه من تواضع و دماثة خلق ، و منذ ذلك اللقاء أصبحت تربطني به صلة روحية دفعتني لأن أبحث في تجربته و أستقرئ ما يكمن خلفها من رؤى فلسفية و معرفية نحت به نحو الابتكارية و جعلتها في المقام الأول من التشكيل ليس الفلسطيني فحسب و إنما العربي المعاصر ....إن الفكرية التي يمارس بها و يبتكر من خلالها تجعله واحداً متفرداً بإسهاماته التي أسبغ عليها صفة الموضوعية الشكلية مثيراً في المتلقي أحاسيس المتعة و اللذة الجمالية ليس بصفتها مفردات بصرية مألوفة مشفوعة بقيمة جمالية تعبر عن حالة أو حالات مباشرة تثير التعاطف كما هو مألوف في التشكيل الفلسطيني بصفة خاصة ، و لكن بصفتها قيمة بصرية تشكيلية ذات تنوع مثير مشفوعة بالجمال الذي يبدعه بالتضافر مع عمق التقنية التي يستخدمها ...هذه البيئة الجمالية استخدمها استخداماً جديداً و مغايراً أدى إلى التنوع في استثارة الانفعالات ، و إلى التحرر النوعي في طاقة العمل ، فنجد التفاعلية القائمة على جدلية الشكل و المضمون بتداخلات متوارية بين الأساسي و الثانوي ، و بين المنطقي و الروحي بأعلى قيمة مما يحقق الفعالية التي بفضلها يتطابق المتلازمان الشكلي و المضموني و هما يتجهان نحو هدف أصله الإتقان الذي يقلل من مقاومة المادة لتصبح طيعة بين يدي الفنان الذي يشكل بها ساعياً نحو الكمال ، لذا يجب على الكائنات أن تكون فعالة ، و هذه الفعالية يجب أن تتوافق مع طبيعتها .. إن التركيب المنظم للعناصر يقود إلى إنشاء شبكة دقيقة المعايير تتسع و تتقلص وفق علاقات خاصة يوالفها الفنان بفعل التجانس ....تجربة الفنان محمد نصر الله مرت بمراحل مختلفة ، فقد انطلق منذ بداياته من الرسم الأكاديمي فصور الطبيعة ، و الطبيعة الصامتة ، و الإنسان ...الخ ، إلا أن ملكته الإبداعية قادته إلى نمطه الاستثنائي الخاص فكانت لغته التشكيلية مفصلاً هاماً في حركة التشكيل الفلسطيني و العربي .. حتى أن تطور تجربته الفنية تذكرني بتطور تجربة الفنان الإسباني بابلو بيكاسو من حيث المفردات البصرية مع فارق الخصوصية ...التجريد الذي تصول إليه نصر الله هو انحياز للحاجات النفسية نتيجة تراكمات نضجت عن صراع القوى الذهنية المنتجة و أفرزت بالتالي هذا التجدد ...صار الأزرق بصفائه ، و تناغماته ، و تبايناته رؤية و فلسفة لدى الفنان نصر الله ، اكتشف فيه واقعاً جديداً و حوله إلى أداة مؤثرة و ساحرة ، لقد جرب باستمرار ، و اكتشف القوة المذهلة في الأزرق ، يقول : (هذا الأزرق يخترق عالمي دائماً بألوانه وأشكاله كلما اتسع الفضاء بآفاقه وتلمست بحرية الأشياء... يبدأ من النهاية أو ينتهي في البداية بانتهاء لوحتي...في تجربتي آفاق زرقاء شعرت أن اللون الأزرق أيضاً قد صار مرجعي الأساسي الذي يقودني نحو مقياس رؤية إبداعية أخرى لشكل اللوحة التي تثير إحساساً بالحركة عبر التكوين الفني البصري. ولا أريد استخدام حريتها الشكلية للتطاول على تسييس خطوطها ورموزها لأنها تبقي في ذاكرتي خزاناً للغرائز الانفعالية بكل كائناتها الجمالية التي تخلق حالات روحية بعيدة كل البعد عن المباشرة سواء كان ذلك على مستوي الرؤية أو اللاوعي في لوحاتي، خاصة أنني أصبحت أميل نحو الاختزال الآن في الشكل والخط واللون ، وكأنها رموز من الأشياء المحيطة بي في حد ذاتها. لكنني أجد فيها ذاتي ، من حيث البحث والتجريب لكي أتوصل إلى لغة موسيقية خاصة بلوحتي أيضاً وبالمنجز الذي أعمل عليه.وهذه واقعة اللون الأزرق الذي أصبح يسيطر بشكل كبير على فضاء لوحاتي وهو الذي يحرضني ليؤثث بنيته التكوينية لكي يثير بخطوطه وألوانه المتعرجة وعناصره المتحركة الفضاء البصري ، لخلق معاني جديدة كامنة وراء هذا العمل.) .سطح اللوحة لديه مسرح تتفاعل فيه ألوانه التي تنضج على مهل باشتقاقات و تباينات نتهيأ فيها عناصر و أشكال ، و أشياء تمس ذاتنا .. هي تداعيات تنبز من بين الخطوط و ذبذبات الألوان التي تعكس شفافية روحه المسكونة بأرحب الفضاءات ... طوبى لك أيها الفنان المشبع بالسكينة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق